ارتدادات الربيع العربي على اليسار التركي

TT

تركيا تعرفت إلى التعددية الحزبية شبه الحقيقية قبل 60 عاما، وهي منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم شهدت 16 عملية انتخابية لم يتمكن خلالها اليسار التركي من التفرد بالحكم ولو مرة واحدة. انقلاب عام 1980 العسكري قطع عليه الطريق تماما في تحقيق هذا الحلم بعدما عزز فرص اليمين التركي بكل توجهاته، ثم جاء حزب العدالة والتنمية عام 2002 لينزل به الضربة القاضية ويحرمه من التفكير حتى في فرصة من هذا النوع.

هذا الشعور بالإحباط تحول إلى رعشة ومشروع انتفاضة قبل عامين مع كمال قليشدار أوغلو الذي رأى فيه اليسار التركي التقليدي وحزب الشعب الجمهوري المعارض «مرشح الشعب» و«القوة الهادئة» القادرة على إعادته إلى السلطة التي تسلمها اليمين من عصمت إينونو خليفة أتاتورك العلماني المتشدد ولم يعدها إليه رغم مرور أكثر من نصف قرن على الانتظار. خلافات الحزب الداخلية ونزاعاته التي لا تنتهي لم تساعد قليشدار أوغلو على تحقيق الكثير، ولم تنفعه كل شعارات أنصاره حول بساطته وتواضعه ونزاهته وتحويله إلى ظاهرة ستتصدى للفساد والرشاوى، أبرز الأوراق التي يحاولون لعبها ضد حزب العدالة والتنمية.

آخر أنباء الحزب تقول: إن مشروع إسقاط حكومة أردوغان وإبعادها عن السلطة أرجئ إلى ربيع آخر. فالضربات الموجعة التي تلقاها قليشدار أوغلو من دنيز بيقال الذي احتكر الرئاسة لنحو 20 عاما لم تنته حتى من قبل أقرب أعوانه مثل أندر صاف وخلوق كوش وعيسى غوك الذين يقال: إنهم لن يترددوا في الإعلان عن حزب يساري جديد في حال فشلوا في انتزاع الحزب من القيادة الحالية.

لكن الصفعة الحقيقية التي تلقاها قليشدار أوغلو جاءت قبل أيام من أحد أقرب أعوانه وأهم قياديي الحركة التصحيحية التي يقودها، وهو غورسال تكين، الذي يقول: إنه ذهب ضحية إعادة توزيع المناصب والمهام، بعدما كان قبل عامين يقول: إننا هنا لا ننتخب فقط رئيسا جديدا لحركتنا بل نختار رئيس الوزراء التركي الجديد الذي سيتسلم دفة القيادة من «العدالة والتنمية». تكين يردد في خطاب الاستقالة أنه لا يمكن للحزب الاستمرار بهذه الطريقة وهذا الأسلوب، قواعدنا الشعبية تريد منا غير ذلك وتنتظر أكثر من ذلك.

حواجز وصعاب كثيرة تقف عائقا في طريق انطلاق الحزب، وتحول دون وصوله إلى الحكم، وهو يعرف أن عمليات رتوش وتجميل لن تكفيه.

حزب الشعب الجمهوري الذي تسلم السلطة عام 1925 وأمضى فيها ربع قرن كاملا قبل أن يطيح به الحزب الديمقراطي فشل في العودة إلى الحكم مرة أخرى بعد انشقاقات وتشرذمات داخلية كثيرة في صفوفه. تواضع وعفوية وبساطة وأناضولية قليشدار أوغلو لم توفر له فرص الانفتاح على قواعد اليمين والمحافظين الأتراك.

لكن الانقسام بدأ يتزايد بين جناحين: الأول قومي أتاتوركي يتقدم باستمرار، والآخر يتراجع بعد فشل الكثير من محاولاته للتمركز باسم الاشتراكية والديمقراطية.

قليشدار أوغلو وعد بإعطاء الأولويات لمسائل العدالة الاجتماعية والبطالة والتعليم والدستور الجديد، ومشكلته قبل كل ذلك كانت فشله في الابتعاد عن المؤسستين العسكرية والقضائية، هذه الحالة التي تحولت إلى «زواج كاثوليكي» استفاد منه «العدالة والتنمية» باحتراف.

قليشدار أوغلو تحدث عن التجديد والتغيير، لكن القواعد الشعبية لم تسمع حتى الساعة بأي مشروع إصلاحي سياسي اجتماعي تعليمي وطني يقارع مشاريع «العدالة والتنمية». البعض ما زال يتحدث عن ضرورة الانتظار بعض الوقت، لكن آخرين يقولون: إن الانتظار سيكون حتى انعقاد المؤتمر العام للحزب حيث سيكون هناك تصفية حسابات جديدة لا يعرف أحد كيف ستنتهي.

رغم كل ما كتب وقيل عن التحام القوى والتيارات والشخصيات اليسارية والأتاتوركية المشرذمة، فإن موجة كمال قليشدار أوغلو لم تكن سوى محاولة إعادة الروح إلى اليسار الذي انهار في بداية الطريق أمام غيبة روح العودة التي يحتاجها اليسار، وخيبت آمال المراهنين على فارس الحصان الأبيض الذي يعيد إليه الكثير من القوة والاعتبار والحماس المفقود.

الضربة الأقوى التي أنزلها اليسار التركي بنفسه ربما كانت مسارعته لزيارة دمشق تضامنا مع النظام هناك وتبنيه نظرية «المؤامرة» في الربيع العربي على عكس الكثير من الأحزاب اليسارية في العالم التي تقرأ ما يجري بأسلوب مغاير لا بد أن يكون الدرس الأول فيه الاستفادة من منهجية ولغة اليسار الفرنسي الذي أوصل مرشحه إلى مقعد الرئاسة.