إنجاز تاريخي للأمن السعودي

TT

قفزة كبيرة للإنسانية في تقدمها المستمر ضد قوى الظلام والكراهية، حققه الأمن السعودي بالكشف عن أحدث ابتكارات عصابة «القاعدة» في الذكرى السنوية لمصرع زعيمها أسامة بن لادن. ملابس داخلية مفخخة بلا أسلاك يستحيل على أجهزة الكشف رصدها في المطارات.

خطوة أدت إلى إنقاذ مئات، وربما آلاف، الأرواح وتساعد العلماء على تطوير وسائل لكشفها.

مسؤول صاحب خبرة طويلة في المخابرات الأميركية وصف نجاح الأمن السعودي بـ«المذهل» والأكبر الذي تمكنت أي مخابرات من إنجازه ضد شبكات الإرهاب. فبعد نجاح برامج إعادة تأهيل من خدعهم أئمة الكراهية وفقهاء التضليل المزيفون، طور الأمن السعودي جهوده إلى تصميم برنامج طموح معقد، يتضمن استعادة شباب فقدهم الوطن بإيقاظهم من غيبوبة الإرهاب. وفرع من البرنامج صمم لاختراق شبكة الإرهاب المتغلغلة في اليمن، خاصة في مناطق القبائل الجبلية. فهزيمة طالبان في أفغانستان 2001 شتتت «القاعدة» لتعيد التمركز في اليمن، وباكستان، والصومال، ثلاث بؤر لتدبير المؤامرات، وغسل أدمغة الشباب لتجنيدهم مسلوبي الإرادة للتدريب كقنابل آدمية للفتك بالبشر.

وإنجاز الأمن السعودي يفوق مغامرات روايات الجاسوسية وأفلام جيمس بوند. فما تعرضه الروايات من تدريب عميل مزدوج double agent وتزويده بأحدث التكنولوجيا ليخترق صفوف الأعداء أو يتسلل إلى مخابراتهم بهدف الحصول على أسرار سلاح مبتكر أو معلومات أو تصوير وثائق، ليس بجديد بل تكرر منذ الحرب العالمية الأولى.

الجديد هو استراتيجية مبتكرة بالعمل الصبور لنشر شبكة علاقات وثيقة مع القبائل اليمنية للتأكد من دقة المعلومات، ثم اختراق خلايا «القاعدة»، بجانب القيمة التاريخية للإنجاز الذهني والسيكولوجي غير المسبوق.

كان باستطاعة الـ«handler» المسؤول عن توجيه العميل الوطني في الأمن السعودي، أن يأخذ منه القنبلة وملف المعلومات ثم يشارك بتقرير متضمن المعلومات وأسرار القنبلة مع شركاء العمل في الـ«سي آي إيه» وبقية المخابرات المتعاونة مع السعودية حول العالم، ومع شركات تصنيع أجهزة تفتيش المطارات.

عملية الأمن السعودي تدخل تاريخ العمل السري كسابقة بتطوير عامل السيكولوجيا من إعادة التأهيل الذهني لابن ضال عاد إلى أحضان الوطن، إلى إقناع مسلمين بقبول دور مناقض لذهنية التدين المعتادة وقبول تضحيات ومخاطر يتطلبها دور العميل المزدوج أثناء وجوده بين خلايا إرهابيين لا يعملون أي حساب لقوانين تنظيم الحرب أو مواثيق الشرف الدولية أو القيم الأخلاقية.

الدرس المهم الآخر هو طريقة ترتيب إيصال المعلومات عن خلايا اليمن وقنبلة «القاعدة» الجديدة، كمهمة تولاها ونفذها العميل المزدوج، بمقابلته وكيل الـ«سي آي إيه» في صنعاء (كإعلان هادئ بإحكام الخطة السعودية في تأمين مكان اللقاء).

إقناع مسلم يتعرض يوميا لفكر التشدد الأصولي بالتعاون الشخصي مع «مخابرات الكفار والصليبيين» (كما يسميهم فكر المتشددين، فهناك من أئمة وفقهاء البلاد الإسلامية من يحرمون التعاون مع الكفار كمعصية تؤدي بمرتكبها إلى جهنم وبئس المصير)، هو في حد ذاته الإنجاز الأكبر في العملية، وخاصة أن المعلومات أدت إلى غارة أجهزت على خلية فهد محمد القوصع الإرهابية الأسبوع الماضي.

الأساليب التي ذكرها المسلم البريطاني «Ed Hussein» (إيد حسين) في كتاب «Islamist» (الإسلاموي) من خبرته الشخصية عن تخريب «الجهاديين» لذهنية الشباب المسلم في باكستان وبريطانيا هي نفسها ما يدور في بلدان عربية. رسم صورة سلبية لغير المسلمين في عقول الصغار، والتدليل بأحاديث غير صحيحة أو آيات خارج السياق أو منقوصة («لا تقربوا الصلاة...») لإقناعهم أن غير المسلم (أو المسلم العلماني) يحل دمه. المرحلة الثانية تحريم التعاون مع غير المسلم كخيانة دينية.

«أدانت محكمة إنجليزية هذا الأسبوع تسعة باكستانيين وأفغان مسلمين بتهم الكسب غير الأخلاقي، وإفساد أخلاق القاصرات، والتغرير ببنات دون السن القانونية بمخدرات ومشروبات لاستغلالهن في الدعارة، والضحايا إنجليزيات غير مسلمات. مستشار مؤسسة «رمضان» الخيرية الإسلامية انتقد عددا من أئمة وفقهاء مسلمين رفضوا إدانة العصابة، إذ اعتبروا أجسام غير المسلمات مستباحة وأنهن يستحققن ما حل بهن كغير مسلمات لا يجوز معاقبة مسلم بسبب فساد أخلاقهن».

ولذا فإقناع مسلم متدين باختراق عصابة تلوح براية الإسلام واقتناص أسرارها ثم مشاركته غنيمته مع حلفاء غير مسلمين هو إنجاز يقدم استراتيجية جديدة، في مكافحة الإرهاب. فكسب المعركة في الأذهان والقلوب سيؤدي إلى كسب الحرب في الجبال.

الأمن السعودي تعامل بصبر ونضج كبير، بدأ في تجاهل المسؤولين السعوديين للانتقادات في الصحافة الأميركية وأحيانا في الكونغرس للسياسة الداخلية في المملكة، أو لبعض الممارسات الاجتماعية. نظر المسؤولون السعوديون للصورة الأكبر ولمصالح الوطن على المدى الطويل. فمقالة أو برنامج تلفزيوني سلبي قد يثير حفيظة البعض، لكنه لا يهدد الأمن القومي بقدر ما يهدده الفكر المتطرف الذي لا يفسد عقول النشء فحسب، بل أدى إلى إزهاق الأرواح وارتكاب أعمال إرهابية في عاصمة المملكة نفسها. ولا بد أن الأمن السعودي وظف جهود رجال دين وفقهاء مستنيرين لإقناع وكلاء الجهاز المسلمين بأن أسمى مراحل الإيمان بالله هي الحفاظ على النفس البشرية التي خلقها، وتعاون الإنسانية لدعم الخير في مواجهة الشر، والتعرف على بديهية أن حياة الإنسان، والحفاظ على سلامة الكائن الحي أهم من أي نشاط آخر (هناك حديث شريف جوهره أن مساعدة المسنين، أو زيارة مريض أفضل من قضاء شهر في المسجد). فتعريض الشاب نفسه للأخطار وتضحية أسرته بقطع الصلة بالمعارف والأصدقاء لتغيير الهوية ومكان الإقامة، تعاونا مع غير مسلمين، ليس بالأمر الهين بل يتطلب شجاعة عقل وروح كأبطال الأساطير الإغريقية.

الدرس الآخر لجميع مخابرات البلدان الإسلامية والعربية هو أهمية التعاون الكامل مع جميع مخابرات العالم بلا استثناء، حتى مع أطراف بلا تمثيل دبلوماسي رسمي أو معاهدات سلام. فالحروب النظامية لها قواعدها (بروتوكول جنيف) والخلافات الدبلوماسية والحدودية لها إطار قانوني (اتفاقية فيينا للعمل الدبلوماسي 1949 والقانون الدولي والمحكمة الدولية)، أما المنظمات الإرهابية كـ«القاعدة»، فلا تعمل وفق قواعد قانونية أو اتفاقيات دولية أو أخلاقية أو حتى تلتزم بتعاليم الدين الذي لوثت اسمه برفع رايته فوق «جهاد» مزيف هو واجهة للإرهاب. فالتعاون من أجل الهجوم المستمر بجميع الوسائل (عسكرية، ومخابراتية، وسياسية، وذهنية) على الإرهابيين ومطاردتهم في كل مكان هو خطوة استراتيجية مهمة لشغل الخلايا بالاختباء والحفاظ على سلامتها، ولذا فالتعاون الدولي لاستمرار الهجوم عليهم يحرم الإرهابيين من الوقت اللازم لتدبير عمليات إرهابية ضد عباد الله الصالحين سواء في السعودية أو غيرها من البلدان، إسلامية أو غير إسلامية.