السوريون ضحية إعلام النظام والمعارضة

TT

في الحروب والنزاعات المسلحة، الكاذب الأكبر هو الإعلام. في تفجير دمشق، يعرض نظام بشار الجثث والدمار على شاشة التلفزيون وهو يؤكد أن التفجير من صنع «القاعدة». مجلس برهان غليون يعلن من اليابان أن التفجير من صنع النظام.

دمشق مدينة مغلقة. مفصولة عن ريفها المشتعل بالثورة، بحواجز عسكرية. ودوريات أمنية مكثفة. فكيف تصل سيارتان مثقلتان بحمولة ألف كيلوغرام (طن) من المتفجرات، إلى مفرق طرق مكتظ بالحركة والسكان، لتنفجرا أمام مبنيين أمنيين، أحدهما أكبر فرع مخابراتي والأشد قوة ووحشية (فرع فلسطين)، من دون علم وخبر عشرين جهازا مخابراتيا؟!

التفجير يحمل طابع عنف ووحشية التفجيرات المخابراتية السورية في لبنان التي أودت بحياة رئيسين للجمهورية (بشير الجميل. ورينيه معوض) ومفتي الجمهورية السني (الشيخ حسن خالد). وحليف سوريا المزمن الكتائبي / القواتي إيلي حبيقة. وكما في تفجير دمشق، فقد قتل مع هؤلاء نحو ستين عابر سبيل بلا رحمة. هذا إذا استثنينا التفجير المماثل الذي أودى بحياة رفيق الحريري الذي يندرج رجال «حزب الله» وأجهزة مخابراتية سورية، على لائحة الاتهام بارتكابه، لدى المحكمة الدولية.

النظام السوري امرأة مشبوهة ذات ماض. في حياته أكثر من تنظيم «جهادي». بعضها معه. وبعضها ضده، في العراق ولبنان خصوصا. وإبعادا للشبهة، فليس صعبا على النظام تكليف خلية «قاعدية» بتفجير دمشق وتأمين وصول سيارتي الانتحار، وطنّ من المتفجرات، إلى مفرق المدينة الجنوبي، عبر الحواجز والدوريات.

نفسيا ومعنويا، نظام بشار في ضيق. فقد بات محاصرا. القمع الدموي المسلح يقابل اليوم بعنف دموي مسلح. كان الغرض من تفجير دمشق إقناع الوسيط الدولي كوفي أنان. ومراقبيه. والرأي العام العربي والدولي بأن «القاعدة» باتت مرتبطة بالانتفاضة، كتنظيم مسلح من تنظيماتها.

التركيز على عرض الدمار. الجثث. الأشلاء. الدماء، على الشاشة، يرمى إلى إيقاع الرعب والتقزز في نفوس ملايين السوريين الذين لم يألفوا هذه المشاهد، إلا على المسرح العراقي. الهدف الإيحاء لهم بأن هذا هو مصيرهم، إذا ساندوا. أو استسلموا لمنطق معارضة يخترقها «الجهاد» الحربي والتكفيري الذي يستبيح دماء مجتمع «مرتد» إلى الجاهلية. للموت رهبة. للميت احترام لدى الأحياء، بحيث تعف الشاشة والعدسة (الكاميرا) عن عرض الأشلاء والجثث مباشرة. لكن هذا النظام لا يعرف رهبة. ولا احتراما لمواطنيه، موتى وأحياء. هذا النظام لا يقاتل كدولة لها كبرياء. قانون. حدود للقتل. هذا النظام يحارب كطائفة محكومة بعائلة فقدت شعورها الإنساني، وصلتها بمجتمعها، خلال نصف قرن من حكمها.

بشار نظام محاصر. بشار أشبه بساعة رملية. دقائقها تتسرب ببطء، كحبات رمالها. يوما ما ستتبدد. ستغيب رويدا. رويدا. لن يبقى منها سوى ذكرى بغيضة لشاب لم يعرف كيف يتعامل مع مواطنيه. ولم يعرف كيف يؤدي دور أبيه كلاعب. إنما حول سوريا إلى مسرح لصراع لا تستطيع الانفكاك عنه. صراع بوجوه متعددة: محلي. إقليمي. دولي. ديني. طائفي. مذهبي. عرقي.

الإعلام الأمين مع الرأي العام يقدم أكثر من تفسير لحدث لا تتوفر فيه «مستمسكات» تؤكد تفسيرا واحدا له. السائح برهان غليون أدان من طوكيو نظام الطائفة بتفجير دمشق. وضعت تنظيمات المعارضة المدنية والمسلحة الغشاوة «اليابانية» على عيونها. وأوكلت إلى النظام «مهمة» التفجير... وكفى! هذا الشكل من الإعلام المعارض يجب أن ينتهي. أن يتغير بعد مرور أكثر من عام على انتفاضة نبيلة تستحق إعلاما أكثر نبلا وجدية. المعارضة المنتشرة إعلاميا ودعائيا، يجب أن تمتلك الشجاعة لترى ما يدور في بيتها. إذا كانت «القاعدة» قد تسللت فعلا إلى صفوفها، فعليها أن تصارح السوريين والعرب والعالم بذلك.

اتهمت المعارضة النظام. ظنت أنها أراحت. فاسترخت واستراحت. لكن العالم لم يصدقها. حتى أميركا أوباما لم تغتنم فرصة تفجير دمشق لاتهام النظام. بل اتهمت «القاعدة». ربما من خلال معلومات متوفرة لديها. ربما من خلال تحليل دموية التفجير، ووحشية القتل اللتين تطبعان العمليات الانتحارية.

الصمت. إلقاء التهمة على الغير. عدم القدرة على التحليل والتفسير. الخوف من «إرهاب» وانتقام الانتحاريين... كل ذلك سوف يقضي على هذه المعارضة السياسية. برهان غليون كتب في الثمانينات مقالات افتتاحية في مجلة أسبوعية أصدرها نظام صدام في باريس. فهو يعرف شيئا عن الإعلام.

سياسي يترأس أكبر هيئة سياسية للمعارضة لا يليق به أن يقدم تحليلا (يابانيا) هشا لأكبر تفجير في تاريخ الانتفاضة. منافسته بسمة قضماني مسؤولة إعلام «المجلس الوطني» كان بإمكانها تصحيح تصريحه. فهي أعرف منه بمهمة الإعلام، وأوسع خبرة بسوريا، بحكم عملها كباحثة متخصصة، في أكبر مركز للبحوث والدراسات السياسية في فرنسا. إعلام المعارضة يحول ضحايا النظام إلى مجرد أرقام صماء. تنطلق المراكز الإعلامية السورية التي تبث من عواصم المنطقة العربية وأوروبا، لتعدد الضحايا في كل مدينة وقرية. كم هي بائسة هذه المعارضة الإعلامية التي تحول شهداءها إلى مجرد أرقام. حان الوقت لتسأل هذه المراكز مصادرها المحلية المجهولة، كي تبلغها. من يقتل من؟ ما هي هوية وانتماءات هؤلاء المقاتلين العاملين في المدن والأرياف؟

التعمية الإعلامية ستودي، في النهاية بالتنظيمات السياسية. التنظيمات المسلحة المجهولة هي التي ستخلف النظام عند سقوطه. السلاح المجهول الهوية والانتماء لن يحرس الحرية. لن يقيم ديمقراطية. التنظيمات المسلحة ستحول سوريا إلى ليبيا الراهنة، بفوضى ميليشياتها. فهي تستمد شرعيتها المضادة للديمقراطية السلمية، من سلاحها الذي شهرته في وجه النظام. وستشهره على المسرح السياسي الذي يخلفه.

إذا كان إعلام النظام كاذبا، بحكم تخلف مهنيته الحرفية، وبحكم سيطرة نظام لا يعرف شيئا عن الإعلام، وعن أهميته كوسيلة توصيل وإقناع، فعلى إعلام المعارضة، بكل فصائلها، أن يكون صادقا. أمينا. حرفيا. يستمد نزاهته. شجاعته. من براءة وطهارة انتفاضة سلمية، جوبهت بقمع وحشي. وإعلام رسمي كاذب.

كان ديغول يخاطب الفرنسيين في زمن الحرب (1939 / 1945) من مذياع الـ(بي بي سي) في لندن. كان يصارحهم بإنجازات ونكسات المقاومة للاحتلال. ليس هناك ديغول سوري في هذه الأيام. هناك «وجهاء» معارضة يجوبون الشاشات. يقدمون أشخاصهم قبل قضيتهم. من حق السوريين أن يعرفوا شيئا عما يدور في بلدهم المنكوب. بلا إعلام معارض صادق في أرقامه. ووقائعه. كاشف لأداء وانتماءات فصائل المعارضة السياسية والمسلحة، فستصعب على السوريين، عندما تدق ساعة الحرية، إقامة نظام حر. ديمقراطي. وإصدار صحافة تقدر قيمة الحقيقة. والمعلومة. والخبر. والرقم.

المعارضة السياسية والمسلحة لن تتحول إلى أحزاب سلمية. وديمقراطية، ما دامت تخفي ماضيها. وتتستر على أدائها خلال الانتفاضة. وأول هذه الفصائل هي تلك الدينية التي يحب أن تتبرأ. وتكشف إعلاميا. وسياسيا، خلايا وتنظيمات، تمارس القتل العشوائي، سواء كانت أجيرة للنظام، أو مستقلة عنه.