طريق النهضة يبدأ خارج.. الحمام

TT

يروى أن الشيخ مصطفى المراغي، وهو من أهم أئمة الأزهر الشريف في بدايات القرن العشرين، استيقظ ذات صباح وتناول جريدة «الأهرام»، ليقرأ في صفحتها الأولى وبأحرف عريضة خبر نجاح طيارين فرنسيين في قطع المسافة بين باريس ولندن بطائرتهما. خبر من هذا النوع منذ مائة عام كان مذهلا، ولا يقل إثارة للذهول من هبوط رجل على سطح القمر أو تفجير قنبلة نووية، فيما بعد. وفي طريقه من منزله إلى الجامع الأزهر لم يكف الشيخ المراغي عن التفكير في هذا الإنجاز العلمي الكبير (تحليق إنسان في الجو)، ولا حين جلس ليلقي درسه على طلابه. وفوجئ بأحد طلابه يستأذنه في طرح سؤال عليه. وكان السؤال: «ماذا يقول الشرع في مسألة دخول الإنسان إلى الحمام؛ هل يدخل بقدمه اليمنى أم اليسرى؟». حدق الشيخ المراغي في وجه الطالب ثواني قبل أن يستشيط غضبا ويصرخ: «يا (...) هم طاروا.. طاروا، وانت لسه في الحمام؟!».

وبالأمس، قرأت في صحيفة اقتصادية فرنسية أن أرباح شركة «أبل» للإلكترونيات بلغت 11 مليارا للأشهر الثلاثة الأخيرة. أي أن أرباحها لعام 2012 قد تصل إلى أربعين مليارا. وأترك للخبراء تقدير ثمن أسهم هذه الشركة التي تقدر أرباحها بالمليارات، وغيرها من شركات الكومبيوتر والهواتف في العالم، أي مبلغ خيالي من الأرباح يتعدى مجموع إنتاج عشرين أو ثلاثين دولة من العالم الثالث. كل هذه الشركات ومنتجاتها لم تكن موجودة منذ ثلاثين عاما، وكلها نشأت في دماغ عدد ضئيل جدا من المهندسين والاختصاصيين بدأوا عملهم في مختبرات ومكاتب صغيرة. ولولا هؤلاء لما كانت البشرية تتمتع اليوم بالهاتف الجوال والإنترنت والفضائيات. ولولا أمثال هؤلاء من قبل لما كان هناك راديو ولا كهرباء ولا برادات ولا سيارات ولا طائرات ولا أي من الأدوات والوسائل التي تتحكم اليوم بحياة الإنسان في القرن الحادي والعشرين. و«الخير لقدام»، كما يقول المثل.

إنها الثورة العلمية الجديدة التي غيرت حياة الإنسان والمجتمعات على الأرض، ودفعت بهما في السنوات الثلاثين الأخيرة إلى الأمام مسافة تفوق بكثير تلك التي اجتازها منذ أربعة آلاف عام. وذلك نتيجة للعلم والبحث والاختراع.

كانت الدول بالأمس تقاس بأحجامها الجغرافية والبشرية. أما اليوم فإن مائتي مهندس وخبير من خريجي «سيليكون فاليه» استطاعوا إنتاج بضائع إلكترونية تفوق مداخيلها السنوية مجموع إنتاج قارة بأسرها. وأوجدوا 20 أو 30 مليون فرصة عمل جديدة في الولايات المتحدة وغيرها في العالم.

نعم، إن نهضة الدول والشعوب، اليوم، إنما تمر بالعلوم والجامعات والمختبرات. فمن دون هذه القواعد لا تستطيع الشعوب إنتاج ما تحتاجه لكي تنهض، ولا توفير فرص عمل لأجيالها الطالعة، لا سيما في الدول التي تبلغ نسبة الشبان والشابات فيها مستوى عاليا، كما الحال في الدول العربية والإسلامية. لقد زرت كوريا في أواخر السبعينات وكانت أشبه بدولة من العالم الثالث. وهي، اليوم، تنافس الدول الغربية صناعة وتكنولوجيا متقدمة. فلماذا يا ترى استطاعت كوريا وغيرها تحقيق هذه الوثبة الكبيرة إلى الأمام واللحاق بالدول المتطورة، بينما نحن لا نزال نستورد 90 في المائة من وسائل وأسباب الحياة الحديثة؟

لقد صفق العالم للربيع العربي، وتحرر بعض شعوب العالم العربي من حكم أنظمة فشلت في تحقيق أماني شعوبها وحرمتها من الحرية والكرامة. وإنه لانجاز تاريخي يستحق التصفيق له.. ولكن بعد مرور سنة على الانتفاضات الشعبية العربية بدأت علامات استفهام كبيرة ترتفع في سماء العواصم المحررة. ولعل ما يحدث في مصر يشكل النموذج الأخطر. ونعني هذا التخبط أو الضياع السياسي - الدستوري - القانوني - الجماهيري، الذي جعل القوى السياسية التي أفلتت من قيودها تتنافس على الحكم. إنه أمر طبيعي، يقول البعض. فكل الثورات والانتفاضات الشعبية في التاريخ أعقبتها حقبة من الفوضى والتخبط قبل أن تستقر في نظام حكم جديد. إلا أن عصرنا وعالمنا الجديدين يختلفان كثيرا عما كان عليه العالم منذ ألف عام بل منذ مائة عام، بل منذ ثلاثين عاما. ومن هنا كان من الأفضل للمتجادلين حول مستقبل الشعب المصري، والشعوب العربية، أن يخرجوا من ضباب حنينهم إلى ماضي الأمجاد وأوهامهم العقائدية إلى أرض الواقع والعصر والعالم الإلكتروني، ليحققوا ما حققته كوريا وسنغافورة، على الأقل.. لا أن يبقوا منتظرين عند باب الحمام!