الإضراب عن الكلام

TT

هناك حالة عامة من تشويه المفاهيم، والمصطلحات، وحتى التعبيرات السلمية من «تظاهر» أو غيره، بل إن هناك حالة تشويه مخيفة لمفهوم الديمقراطية، وحتى مفهوم الجمهورية في العالم العربي، وكيف يجب أن تكون، وآخر هذه التشويهات بمنطقتنا هو مفهوم «الإضراب عن الطعام»!

فها هو مدير مكتب قناة «العالم» الإيرانية في مصر يعلن عن إضراب مفتوح عن الطعام بسبب إغلاق السلطات المصرية مكتب المحطة التلفزيونية الإيرانية بالقاهرة، مدعيا، أي مدير المكتب، بأن السلطات المصرية تمارس عملية قمع لحرية التعبير، بينما تقول السلطات المصرية إنه ليس لدى المحطة الإيرانية تصريح عمل في البلاد. وعليه، فما دخل الحريات، وقمعها، وكل هذه الكليشيهات، ما دامت المحطة الإيرانية المطرودة ليس لديها رخصة عمل من الأساس؟ وحتى لو تقدمت المحطة بطلب رخصة عمل ولم تقم السلطات المصرية بمنحها ذلك، فهو أمر طبيعي ومن اختصاص الجهات المصرية، بل ومن أبسط حقوقها.

فها هي الحكومة البريطانية تقرر بكل هدوء سحب ترخيص محطة «برس» الإيرانية الناطقة بالإنجليزية، ولا أحد بالطبع يستطيع القول بأن بريطانيا تكمم الأفواه! كما قامت السلطات الألمانية بحجب المحطة التلفزيونية نفسها من قمر صناعي يبث في ألمانيا بعد المنع البريطاني، ولم يُقل شيء تجاه السلطات الألمانية.. بينما على النحو المقابل لا نرى مكاتب، أو محطات عربية تعمل بحرية في الأراضي الإيرانية، ولا يُسمح للصحافيين العرب، أو الأجانب، بالعمل بحرية في إيران، ورغم ذلك، فإننا لا نسمع صوت انتقاد لما تفعله السلطات الإيرانية بحق الإعلام العربي، أو الأجنبي، بل إن عدد الصحف التي تغلق في إيران، ومنذ وصول أحمدي نجاد للحكم يكاد يفوق المعدل لأي دولة أخرى.

وهذا ليس كل شيء، فأثناء الثورة الخضراء في إيران عام 2009 قررت السلطات الإيرانية فجاءة، وبلا مقدمات، طرد جميع المراسلين العاملين على أراضيها، حتى من كانوا للتو قد وصلوا إلى طهران، وبرخص من الجهات الرسمية، فقط لأن إيران قد قررت قمع الثورة الخضراء ولا تريد أي تغطيات إعلامية، ولم يقل أحد وقتها شيئا أيضا. واليوم ها هي إيران تقدم كل أنواع الدعم لنظام الطاغية بدمشق ليس لقتل الشعب السوري وحسب، بل ومن أجل التشويش على المحطات الفضائية العربية، وتعطيل خدمات الإنترنت، وحجب المواقع، لتمكين نظام بشار الأسد من قمع السوريين بعيدا عن أعين المجتمع الدولي، فأين المتباكون على حرية التعبير من كل هذا؟

للأسف كلها عمليات تضليل، وتشويش، وخلط للأوراق، وإلا فكيف يمكن مقارنة مضرب عن الطعام بسبب إغلاق محطة إيرانية بلا ترخيص، مع انشغال العالم، والجمعيات الدولية، بإضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام بالسجون الإسرائيلية، علما بأن كل من يعمل بالإعلام، ويحترم مهنيته، يلحظ حجم الخداع والتزييف الذي تحفل به جل وسائل الإعلام الإيرانية، من وكالات ومحطات، وصحف، وغيرها؟

ولذا، فإن المرء يجد نفسه مجبرا ليقول لأنصار إيران بيننا، أو قل الطابور الخامس، والمهتمين عموما بالإضراب عن الطعام من حقوقيين وغيرهم: ليتكم عندما تقررون الإضراب تضربون عن الكلام، وليس فقط عن الطعام، فذلك أكثر نفعا!

[email protected]