القاعدة 2.0 نسخة غير تجريبية!

TT

يبدو أن «ربيع الأوهام» السياسية لا يقتصر على غياب قراءة الثورات بأدوات تحليلية تستلهم المنطق واستبدالها بدوافع رغبوية لا تنتمي للواقع بصلة؛ بل تجاوز الأمر إلى تصورات مغلوطة ساهمت في خلق كل هذه الفوضى المفاهيمية، وبالتالي كرّست لفوضى الممارسة السياسية.

فوضى المفاهيم لم تقتصر على التعامل مع الثورات؛ بل تجاوزتها إلى فهم التحديات التي نعيشها اليوم في ظل عودة «القاعدة» للمشهد الإعلامي؛ في حين أنها لم تنقطع منذ مقتل زعيمها في مايو (أيار) 2011 عن الواقع، وإن غابت عن الميديا وتصدر شاشات الأخبار.

جزء من الأزمة كان وما زال هو طريقة إدارة الحرب على الإرهاب من قبل الولايات المتحدة، والتي باتت الآن تتعامل مع «القاعدة» على طريقة تقويم المناسبات Calendar حيث يتم استدعاؤها لأسباب انتخابية مع ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، والآن مع تجديد الذكرى بمقتل زعيمها لذات الأسباب.

النظر إلى «القاعدة» كتنظيم مؤسسي أقرب إلى الميليشيات المسلحة لكن بنسخ محلية وأخرى عالمية خطأ استراتيجي كبير أدى إلى فشل الحرب على الإرهاب رغم كل التحولات الكبرى التي عاشها التنظيم وكان من أقساها مقتل زعيمه الذي كان قد مات عمليا حيث تم ترميزه قبل موته كأيقونة ملهمة لفروع «القاعدة» الصغيرة والتي بدأت تنسل بكثافة ليس فقط في مناطق التوتر، وإنما امتدت إلى إقامة معسكرات آمنة في شكل خلايا تنظيمية في كل من العراق واليمن والصومال ومالي والقرن الأفريقي وفي سيناء بل وفي عدد من الدول الأوروبية.

لا يمكن فصل «القاعدة» كحركة إحيائية مسلّحة لا تؤمن ولا تثق في العمل السلمي وإن كانت يمكن أن تنتظر عواقبه لتبني عليه استراتيجيتها كما هو الحال في موقف «القاعدة» من الثورات، والذي بحاجة إلى رصد واع إذا ما أخذنا في الاعتبار تباين موقفين: الأول موقف الظواهري الذي تجلّى في رسائل إلى الأمة المصرية وإجاباته عن أسئلة الصحافيين المتعلقة بالثورة والتي كانت تدور في عدم الثقة بالديمقراطية، ليس لكونها مخالفة للشريعة فحسب؛ بل لأن النظام العالمي المستكبر والذي تقوده الولايات المتحدة وفقا للظواهري لن يدع الأمة تختار طريقها نحو دولة الشريعة، وهنا طبعا نلحظ استبعادا كاملا لمفردات «القاعدة» الأثيرة من أولى الخطوات الجهاد وحتى آخر درجة في سلم «القاعدة» وهي دولة الخلافة التي يتربع على عرشها أمير المؤمنين.

الموقف الثاني كان لقاعديي المهجر كأبي بصير وآخرين الذين يرون في الثورات فرصة سانحة للتغيير، وأن على «القاعدة» أن تتوقف عن العمل إلى أن يتبين فشل الطريق السلمي حتى لا تفقد جمهورها المتعاطف مع الثورات، كما أن تلك الثورات حققت على الأقل سقوط الطغاة وإن لم تقم دولة الخلافة حتى الآن.

والحال أن منطق «القاعدة» ما بعد الثورات فيه الكثير من السياسة والقليل من الآيديولوجيا، ولعل ثقة «القاعدة» بنفسها تجلّت في النجاحات المتتالية لها في إقامة مجموعاتها الصغيرة سريعة النمو في البلدان التي فشلت في استثمار الثورات لصالح بناء الدولة، الأمر يحدث بكثافة نوعية في اليمن وليبيا وشمال أفريقيا وبنسب أقل في تونس وسوريا، لكن المتابع لحراك «القاعدة» على الإنترنت سيلاحظ دون أدنى شك الكم الهائل من خطابات التحفيز وإعادة البناء والجدل حول حدود المشاركة والترقب فيما يخص الحالة السورية بين تيارات ترى خصوصية الحالة السورية التي قد تلفت الأنظار عن أهداف «القاعدة» الحالية في هذه المرحلة من إعادة البناء، هذه الأهداف تتمثل في بناء آمن لمناطق اكتفاء ذاتي في اليمن وشمال أفريقيا والصومال، تستطيع من خلاله أن تتبنى استراتيجيات جديدة في حربها تجاه الولايات المتحدة.

الأكيد أن قوة «القاعدة» في أفكارها العابرة للقارات والتي تصل إلى شرائح جديدة كل يوم بسبب تفاقم الأزمات على مستوى الهوّية والانتماء في ظل الاضطرابات السياسية، فيما تتحكّم العوامل الاقتصادية وحالة التهميش الاجتماعي لمسلمي أوروبا إلى تبني خيار «القاعدة» ولو بشكل تدريجي وبين مجموعات وفئات سِنية معينة.

وربما مع إدراك المراكز البحثية الغربية لخطورة الانبعاث القاعدي الجديد، بدأت الإدارة الأميركية في التفكير جديا في إعادة تدشين الحرب على الإرهاب في نسخته الجديدة عبر تجنيد مرتزقة أفارقة لضرب «القاعدة» في الصومال، كما أنها ستقوم مع بريطانيا ودول أخرى بضربات خاطفة وسريعة للتنظيم في اليمن، وهي استراتيجية خطرة للغاية إذا ما أخذنا في الاعتبار أن سقوط مدنيين عدا كون المزاج الثوري السائد الآن سيعزز من نظرته للتدخلات الأجنبية والتعدي على السيادة باعتبارها حربا على الذات، وبالتالي يمكن أن تنحاز مجموعات محتقنة من مرحلة ما بعد الثورات لخطاب «القاعدة».

التنظيم وفقا لخطابه المعلن وحتى طريقة استعراضه لمكتسباته الجديدة في اليمن بدأ يطوّر من أدواته فهو يفكر في استهداف المزيد من سوق الطاقة العالمي والبنية التحتية النفطية إضافة إلى حرب الاستنزاف من خلال تطوير العمليات الفردية ذات المردود الكبير بدءا من الطرود المفخخة التي يتم إرسالها عبر طائرات للشحن الجوي، وصولا إلى تطوير تقنيات جديدة يمكن أن تتجاوز إجراءات الأمن والسلامة وتزيدها تعقيدا وبالتالي يتحقق الهدف حتى في عدم نجاح العمليات الفردية من خلال خلق حالة من الرعب الدائم وهو عادة ما يترجم بالمزيد من التكلفة المادية لإجراءات الأمن والسلامة لقطاع الطيران.

الرهان الآن هو في تنامي الإيمان بنجاعة الطرق السلمية على الأقل لدى فئة الشباب وهم الأكثر تأثرا وتأثيرا لتحولات عالم السياسة، كما أنهم الشريحة الغالبة عددا واحتياجا للاستقرار السياسي الذي تفتقده العديد من دول الربيع العربي وهو ما سيحتم التفكير خارج عقلية «الطائرات بلا طيار» التي ستزيد الوضع فداحة، فنسخة القاعدة الجديدة 2.0 في زمن الثورات يجب أن لا تكون تجريبية.

[email protected]