الضوء يغادر الفراشة

TT

كان الغناء العربي يأتي دائما من الشرق، فيقال: «الموسيقى الشرقية»، و«الطرب الشرقي»، وتسمى الفرقة الصغيرة المرافقة، والمؤلفة من عود وبزق وكمان، «التخت الشرقي». يولد المطربون على مستوى الأمة في مصر، أو يأتون إليها ليولدوا كمطربين، مثل فريد الأطرش وشقيقته أسمهان، أو «صباح».

لم يكن مألوفا أن يظهر المطربون في الشمال، إلا المحلي منهم، أو بالأحرى البلدي، ومغني الفولكلور والمواويل وطقاطيق الرعاة والفلاحين التي تساعدهم على وحشة البرية وتعبها. وردة جاءت من الجزائر، أقل الأمكنة توقعا. خرجت من المجتمع الأكثر محافظة في شمال أفريقيا والمغرب العربي. ولم تتجاوز هذا فحسب، بل تجاوزت خصوصا أحزان الثورة وتزمت الثوار في جيلها. وانطلقت تغني على مدى العرب، جامعة إلى جمال الصوت حسن المظهر ودلال الظهور.

طبعا كان لا بد من القاهرة وجمهورها وملحنيها ومن يجيد الهتاف من الصدور عندما تردد وردة الجزائرية على المولهين: «أنا بتونس بيك»، ثم تمضي في التوكيد بلا حساب: «أنا أنا أنا». ومع الشهرة لم تعد تُعرف بـ«وردة الجزائرية» بل صارت تلقب «وردة»، كاسم علم خال من الأنساب، مثل أم كلثوم وفيروز.

على أنها لم تكن هذه ولا هذه. وقد حاول زوجها بليغ حمدي، الذي بدأ في «تحديث» أم كلثوم، أن يجعل منها «ثومة» أخرى. لكن الست لا تعطي الكرسي لأحد. فما لبث سيد المؤلفين بين الحداثة والعراقة، محمد عبد الوهاب، أن جاء إلى الست قائلا لها: ليس من الضروري أن تغيري هؤلاء السادة العازفين بنحولهم ونظاراتهم السميكة وربطة الحفناوي المهترئة. فقط فليغيروا أنغامهم.

عندما برزت وردة كمطربة حديثة كانت أم كلثوم قد خطفت المستقبل من أمام الجميع، كما فعلت بالماضي. لكن وردة الصبية احتلت أضواء المسارح وتلوي الحضور. وظلت، لحنا وتأليفا وأداء، مطربة مصرية، وليس شمالية أو مغاربية. وطافت العالم العربي تبني لنفسها موقعا بين موقعين، يساعدها الحسن وخفة الحضور وطلاوة المحادثة.

وعندما طاب لها موقعها لم تعد تريد أن تصبح أحدا غير وردة. فقد صارت لها شخصيتها، وصار لها أسلوبها، وصارت تسمى «أميرة الطرب» وليس «أم كلثوم الجديدة». وصارت نجمة الأعراس الكبرى والمهرجانات. ولم تعد وردة تحرج بالبيت البسيط الذي ولدت فيه في ضاحية بينو الباريسية، بل صارت ترافقها الكاميرات في تذكر واستعادة بداية الرحلة من حياة بدأت في ذروة الحرب العالمية الثانية، يوم الجزائري في باريس عامل أو عاطل أو مجند.

وعلى نحو ما، كان في وردة شيء من الطبع الجزائري العنيد والمقاتل. وقبل أسبوع واحد، كانت ترد بحدة على نصيحة الناصحين بأنها وحدها تقرر متى تتقاعد وتتوقف عن الغناء. ما أصعب الطلاق بين الضوء والفراشة. بدل التقاعد في الظلال، غادرت المسرح والحياة.