مستقبل العالم.. من خلال أزمات البطالة والمجاعات

TT

في زحمة الأحداث اللاهثة اللاهبة: تأخر هذا المقال عن إبّانه قليلا، بيد أننا لا نزال في مايو (أيار) الذي اتُخذ أوله «يوما عالميا للعمال».

«ليس للطبقات العمالية شيء تخشى فقده سوى أصفادها. ولكن أمامها العالم كله ثمرة يمكنها أن تظفر به. فيا أيها العمال من جميع الأقطار والأمصار.. هيا إلى الاتحاد».

هذه فقرات من «البيان الشيوعي» الأول، وهو بيان وجد واقعا مهيأ له فنفذ إلى قلوب وعقول و«بطون» شرائح كثيرة في العالم.. ولو كان واقع العمال والكادحين أحسن حالا: في المطعم والملبس والمسكن والعناية الصحية لما وجد ذلك البيان الشيوعي ذلك التفاعل الذي استمر وتصاعد وانتظم حتى قامت الثورة الشيوعية في روسيا عام 1917.. ويظهر أن «مشكلة الطعام» أو فقدان المستوى المعيشي الكريم اللائق بإنسانية الإنسان.. يظهر أن هذا الفقدان كان أحد أقوى الأسباب وراء اضطراب الأنظمة السياسية والاجتماعية واندلاع الثورات من ثم.. مثلا يتحدث المؤرخ الأوروبي المحقق الكبير هربرت فيشر في كتابه «تاريخ أوروبا في العصر الحديث» فيقول - عن تسبيب الثورات - : «جاءت الثورة (أي الثورة الفرنسية) لأن الحكومات عجزت عن التخلص من بقايا النظام الإقطاعي.. ثم إن موارد طعام الشعب لم تكن ميسورة مضمونة. إذ كانت بعض طبقات الأمة عرضة بين آن وآخر لفتك المجاعات وأهوالها».

والخلاصة العاجلة من السطور الآنفة هي: أن «الرأسمالية العمياء» تسببت - بمظالمها البشعة للطبقات العاملة - في مجيء الشيوعية التي ادعت هي الأخرى أنها المخلص الوحيد للعالم من طغيان الرأسمالية وفجورها.. ولئلا يقع مثل ذلك: صدع عمر بن الخطاب - منذ زمن قصي - بهذه الحقيقة الواقعية المنذرة «لا تمنعوا الناس حقوقهم فتكفروهم».

منذ أيام مرت ذكرى «اليوم العالمي للعمال»، وهي ذكرى تستوجب اجتلاء «رؤية أحوال العالم» من خلال أوضاع العمال والكادحين وعلاقاتهم المتردية مع الرأسمالية المتوحشة.

لقد ارتفع ضجيج الغرب بـ«حقوق الإنسان».. وهذه الحقوق - في حقيقة الأمر - ليست هي التغني بها، ليست الصراخ الإعلامي والسياسي بالانتخابات والتعددية الحزبية وحرية التعبير إلخ ذلك: إن «الحق الاقتصادي» للإنسان يظفر بمرتبة متقدمة وحيوية في سلم حقوقه الأخرى. بل نقول: إنه «الحق الأول».. لماذا؟ لأنه «حق الحياة» ذاتها الذي لا يتصور في غيابه سياسة مثلا.. ولحق الحياة مقومات علمية معروفة هي: الغذاء والمأوى والصحة وما في حكمها.. وإنا لنبصر المرتبة المتقدمة لهذا الحق «المادي»: في قصة ابتداء وجود الإنسان على الأرض: فلقد سُبقت آية استخلاف آدم في الأرض بآية المقومات المادية أو الاقتصادية للإنسان.. وهذه الآية السابقة هي: «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا».. أجل: خُلقت الإمكانات المتنوعة قبل خلق الإنسان.

وثمة من يعلل إغفال الرأسماليين لهذا الحق، أو دفعه إلى أسفل سلم الاهتمامات.. بأن الرأسمالية الاستعمارية بنت نفسها على أنقاض هذا الحق.. يقول الدكتور جمال حمدان في «استراتيجية الاستعمار والتحرير»: «حرك الانقلاب الصناعي (ثورة ديمغرافية) عارمة لم تعرف البشرية لها مثيلا من قبل. ففي القرن التاسع عشر ارتفع سكان أوروبا من 187 مليونا عام 1800 إلى 401 مليون عام 1900 وأصبحت أوروبا متخمة بفائض سكاني تحول بالهجرة إلى طفح بشري خرج من القارة كالطوفان ليتوطن في المستعمرات والأقطار الجديدة. وقد لفظ القرن التاسع عشر وحده من أوروبا نحوا من 60 مليون نسمة توزعت على القارات الملائمة مناخيا للسكنى الأوروبية: ابتداء من أميركا الشمالية إلى أميركا الجنوبية. ومن أستراليا إلى نيوزلندا.. تلك إذن أضخم وأطول رحلة في التاريخ عبر القارات والمحيط، ولا يفوقها إلا تيار تهجير الرقيق.. وثمة حقيقة أخرى: مهمة وخطرة وهي أن الاستعمار الرأسمالي ما قام إلا على أشلاء وأنقاض السكان الأصليين بعد عملية إبادة رهيبة للأهالي الوطنيين. فكان على الاستعمار الاستيطاني لكي ينجح: أن ينتزع الأرض الجديدة والجيدة، ومن ثم يطرد منها أصحابها إلى الأطراف غير الصالحة للسكن والزراعة».

لماذا يجب على العالم أن يتوحل في مشكلات لا نهائية: كلما خرج من وحل: انزلق إلى مثله أو إلى ما هو أشد منه: جرا للأرجل إلى أسفل؟ - سبب ذلك: أن العالم، أو قادة العالم لا يحسنون الاستفادة من التجارب المرة.. منذ سنوات قال أحد مديري الاستخبارات المركزية الأميركية السابقين: «إن المناخ أو المسرح العالمي الراهن يشبه في جوانب عديدة الظروف التي سبقت الحرب العالمية الأولى».. وفي إحدى مسرحياته قال الكاتب فنرنر سغاب: «إن العالم كله قد أخذ يتحول إلى ما كان عليه فيما مضى من الزمن».. قد يرى أناس في هذه الكلمات تشاؤما. وقد يرى آخرون أن فيها تصويرا موضوعيا للظروف والأحوال العالمية.. وأيا كان التقدير والتحليل، فإن السؤال المركزي - الذي يتوجب على الساسة والمفكرين ورجال الأعمال وعلماء الدين - أن يطرحوه على أنفسهم بوضوح وأمانة هو: هل سيفاجأ العالم من جديد بشيوعية جديدة، أو بما هو أسوأ من الشيوعية «والشر دركات لا قاع لها».

لقد فرح معظم العالم بسقوط الشيوعية، لكن لا ينبغي أن يكون هذا السقوط مجرد فرحة ساذجة، أو شماتة عابرة، كما لا ينبغي أن يكون حاجبا عن رؤية أسباب نشأتها.. ومن أفدح هذه الأسباب: استبداد الرأسمالية وغباوتها. ولنستمع - مرة أخرى - إلى المؤرخ الأوروبي الفذ هربرت فيشر. فقد قال: «إن عصر الثورة الصناعية كان من أشد مراحل التاريخ الأوروبي بشاعة، فحينما توحدت صفوف الإقطاعيين القدماء والرأسماليين الجدد: استطاعوا معا، وبما لدى الحكومات من وسائل عنف، استطاعوا تقويض القيم الاجتماعية القديمة العريقة، والقضاء على النظام الحرفي (من الحرفة)، وعلى الحقوق العرفية التي كانت تضمن للعمال والفلاحين حدا أدنى من المعيشة المناسبة على الأقل.. حينما استطاعت هذه القوى - الإقطاع والرأسمالية والحكومات العمياء - تقويض ذلك كله، لم تتسبب في بؤس الملايين البشرية فحسب، بل تسببت هذه القوى في اندلاع حركات مضادة ما كانت أممهم قادرة على التحكم فيها، حركات أدت إلى انهيار نظام التجارة الدولية الحرة الحديث العهد، وإلى حربين عالميتين، وإلى ارتقاء الشيوعية سدة الحكم في روسيا وفي الشق الشرقي من أوروبا».

لعله من المستبعد أن تعود الشيوعية بصورتها التقليدية - الأيدلوجية والتطبيقية -، لكن باب الكوارث الثقيلة من هذا النوع سيظل مفتوحا: ما دام القادة العميان يقودون العالم دون اعتبار بما جرى للبشرية من مآس: كان قادة عميان سابقون قد صنعوها أو تجاهلوا مخاطرها.

وما دام المقال مركزا على «العمل والعمال»، فإن اشتقاق الأمثلة من صميم الحالة هو الأمر المناسب.. ففي العالم اليوم مئات الملايين من العاطلين عن العمل. والنسبة في ازدياد بسبب التدهور الاقتصادي والمالي العام في العالم.. يُضم إلى ذلك: مليارات الجوعى والمرضى الذين لا يجدون طعاما ولا علاجا.. بالنسبة إلى الوطن العربي ارتفعت معدلات البطالة بصورة مرعبة.. ومنذ ثلاثة أيام حذر البنك الدولي من إضافة ثلاثة ملايين عاطل في دول الخليج - وحدها - خلال السنوات الخمس المقبلة.

من المحزن جدا: أن العالم غارق في تفاصيل سياسية وآيدلوجية في حين أن الكارثة الكبرى تقرع الأبواب بعنف ودأب ولعل بواكير المخرج تتمثل في رؤية أولية هي:

1) إعادة تعريف «الاقتصاد الحر» على نحو يطهره من كل نزعة ظلم وفجور تسحق الأغلبية العظمى من البشر.

2) جعل أزمة العمل والعمال قضية استراتيجية طويلة المدى: تدخل في نسيج الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأمني والسياسي.

3) تصميم الحكومات على «التدخل» الاقتصادي والاجتماعي الذي يحفظ التوازن ويفادي الدول الكوارث الماحقة.

4) ترشيد «العولمة» بآليات دولية إنسانية مشتركة تابعة للأمم المتحدة.. مثال ذلك: استنباط آلية فاعلة تسمى «لجنة المفاهيم الإنسانية المشتركة للعولمة»، وذلك بهدف ردم الهوة القاتلة بين حقوق الإنسان والرأسمالية المتوحشة الراكضة وراء الربح الأناني، الساحقة - في الوقت نفسه - لإنسانية الإنسان.