تودوروف وتنوير العرب

TT

في كتابه الأخير «الأعداء الداخليون للديمقراطية»، يصفي تزفيتان تودوروف حساباته مع المحافظين الجدد الفرنسيين وعلى رأسهم برنار هنري ليفي وساركوزي وآخرون كثيرون. إنه يشن هجوما قويا على النظام الغربي في مجمله. وهذا شيء مفاجئ في الواقع. فتودوروف كان قد فر هاربا من الجحيم الشيوعي وبلاده الأصلية بلغاريا عام 1963. ثم التجأ إلى المعسكر الآخر المضاد، أي المعسكر الليبرالي الديمقراطي. وراح ينعم بجنة الحريات الفردية في قلب باريس ويصعد في سلم الفكر والمناصب الجامعية حتى وصل إلى ذراها. وبالتالي، لم يكن هناك أحد يعتقد أنه سينقلب على العالم الرأسمالي، البورجوازي، الذي احتضنه يوما ما.

أقول ذلك وخاصة أنني عندما قابلته مرتين في مكتبه وفي بيته قبل ربع قرن كان متحمسا جدا للنظام الليبرالي الغربي. وفوجئت آنئذ، عندما ذكرت له اسم فوكو وديلوز عرضا، بأنه غير راض عنهما أبدا لأنهما ينتقدان الديمقراطية الليبرالية التي يعيشان في أحضانها من دون أن يدركا حجم النعمة التي يتمتعان بها. كان يعتبرهما من جماعة اليسار النيتشوي العدمي المتطرف الذي يريد الإطاحة بكل شيء. وقال لي: ليذهبا للعيش في بلاد توتاليتارية استبدادية عشرة أيام فقط وبعدئذ نرى ما إذا كانا سينتقدان الديمقراطية الغربية أم لا. هذا ما فهمته منه آنذاك. فكيف تغير تودوروف وانتقل من النقيض إلى النقيض؟!

قد تبدو افتتاحية مقالي هذه هجوما عليه. في الواقع إنني أكتبها للدفاع عنه وتأييد موقفه الشجاع. فمن حق المثقف أن يتغير وينضج كلما كبر في العمر والتجارب وحقق المزيد من الكشوفات والفتوحات المعرفية. فتودوروف لا يلوم الغرب على اتباع التنوير وإنما على انحرافه عن التنوير وخيانته للقيم الإنسانية الحضارية التي يتبجح بها ظاهريا ويعمل عكسها فعليا.

ويرى تودوروف أن المحافظين الجدد من أميركان وفرنسيين يبالغون جدا في خطر الإسلام ويحولونه إلى «بعبع» مضخم ومرعب. كما أنهم لا يميزون بين الإسلام كدين كبير وبين الأصولية المتطرفة التي تزعم الانتساب إليه والتي اتخذته كرهينة بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) أو حتى قبل ذلك. لحسن الحظ فإن صديقه لوك فيري ميز بين الأمرين بشكل واضح قبل فترة قصيرة في برنامج تلفزيوني. وقد سعدت جدا لسماع كلامه على القناة «الخامسة» لأنه، بالإضافة إلى تودوروف، يعتبر أحد أهم المثقفين في فرنسا حاليا. ومجرد وجوده في الساحة يخيف زعيم المحافظين الجدد الفرنسيين برنار هنري ليفي ذا الثقافة الفلسفية السطحية قياسا إليه أو إلى تودوروف. فهو سياسي بالدرجة الأولى أكثر مما هو مفكر على عكس ما يتوهم ويزعم.

وقد لفظ لوك فيري هذه العبارة الموفقة التالية: هل نحاسب المسيح أو الإنجيل على محاكم التفتيش المسيحية التي لاحقت العلماء والمفكرين طيلة العصور الوسطى؟! المقصود: لا ينبغي أن نحاسب الإسلام أو المسلمين ككل على جرائم ترتكبها أقلية من الجهلة والمتطرفين. ولكن يبقى صحيحا القول بأن هناك مشكلة لدينا حاليا وقد أصبحت تقلق العالم كله. ولا تفيد في شيء التغطية عليها. يمكننا بسهولة أن نتهم الآخرين بالطائفية والتعصب ولكن يصعب علينا أن نعترف بأن ذلك قد يكون موجودا لدينا أيضا. الآخر هو دائما المخطئ والمدان أما أنا فلا أشكو من أي شيء!..

ما دمنا بهذه العقلية فلا يمكن أن يحصل أي تقدم في مجتمعاتنا ولا يمكن أن نتخلص من عللنا الاجتماعية وانقساماتنا المذهبية. لو أن فلاسفة التنوير الأوروبي اتخذوا مثل هذا الموقف السهل واللامسؤول لما استنارت الشعوب الأوروبية ولظلت طائفية تذبح بعضها بعضا على الهوية حتى الآن.

من المعلوم أن فولتير عندما زار إنجلترا وشاهد التقدم الذي حققته وكل التسامح الديني المنتشر فيها راح يهاجم فرنسا والفرنسيين لأنهم لا يزالون متعصبين طائفيا وغير مستنيرين عقليا. راح يهاجمهم بعنف لأنهم لا يزالون يقتلون بعضهم بعضا على الهوية من كاثوليكيين وبروتستانتيين. فكلهم مسيحيون: كتابهم الإنجيل ونبيهم يسوع المسيح. ومع ذلك فإنهم لا يطيقون بعضهم بعضا! اقرأوا كتابه «رسائل إنجليزية» الذي تحول لاحقا إلى «رسائل فلسفية».

إنه ممتع حقا. عندئذ تدركون أن المثقف النقدي الحر هو الذي يحلحل الوضع ويوقظ الشعب، وليس المثقف الامتثالي المحافظ الذي لا يقدم ولا يؤخر. فهل كان فولتير خائنا لفرنسا وعميلا لإنجلترا إذ هاجم الفرنسيين ومدح الإنجليز؟ أبدا، لا. فمن شدة حرصه على شعبه وغيرته على أمته وانزعاجه من سبق الآخرين لها راح يقرع الفرنسيين ويؤنبهم ويحثهم على اللحاق بركب الأمم المتطورة.

والآن لا يلومه أحد على هذا الموقف النقدي الصارم. على العكس فإنهم يعتبرونه إحدى مفاخر الأمة الفرنسية لأنه أيقظها من غيبوبتها وأصوليتها وتعصبها. وأصلا لو أن فلاسفة أوروبا قالوا إن شعبنا عظيم، شعبنا ملائكي، شعبنا لا يعاني من أي مشكلة أو علة، لما حصل أي تقدم في أوروبا. ليس عيبا أن يكون الشعب بأقلياته وأكثرياته ذا حساسية طائفية في فترة من الفترات بسبب الجهل والرواسب التاريخية المتراكمة والعصور الانحطاطية. العيب هو أن يبقى كذلك. العيب هو أن تدغدغ النخبة المثقفة عواطفه بشكل ديماغوجي بدلا من أن تساعده على استشعار هذه النواقص والعيوب بغية التحرر منها.

لقد أصبح واضحا لكل ذي عينين أنه لا يمكن تحقيق الوحدة الوطنية في أي بلد عربي مشرقي قبل إيجاد العلاج المناسب لهذه العصبيات الطائفية الخطيرة التي تمزق المجتمع وتفتك به فتكا ذريعا. من هنا، توجد حاجة ملحة إلى الانخراط في مشروع التنوير العربي الإسلامي باعتباره مشروع المستقبل.

من المعلوم أن تودوروف كان قد أشرف قبل بضع سنوات على تنظيم معرض كبير في المكتبة الوطنية الفرنسية لتمجيد التنوير واعتباره إرثا للمستقبل لا شيئا ماضيا منتهيا. ومن خلاله دعا الآخرين ضمنيا (وبالأخص الشعوب العربية والإسلامية) إلى بلورة تفسير تنويري جديد لعقيدتهم الدينية. ولكنه كان يرفض أن يفرض عليهم ذلك بالقوة كما يفعل المحافظون الجدد. فالتنوير إما أن ينبثق من الداخل وإما ألا ينبثق، وكذلك الديمقراطية. لا يمكن استيراد ذلك بشكل جاهز من الخارج كما تستورد الآلة مع قطع الغيار. ولكن العديد من المثقفين العرب لا يزالون يكابرون ويرفضون الاعتراف بضرورة الانخراط في هذا الاتجاه التنويري الجديد.

نقول ذلك على الرغم من أن كل مثقفي العالم شرقا وغربا أصبحوا متأكدين من حتمية هذه الصيرورة لأن الأصولية المتطرفة أصبحت مشكلة دولية وليس فقط عربية أو إسلامية. والحدث الكبير المنتظر في السنوات القادمة هو انبثاق شمس التنوير العربي من خلف الآفاق المسدودة والدياجير المظلمات. العالم كله ينتظر الآن حصول هذا الحدث الأعظم: متى يتحلحل الإسلام؟ متى يتجدد الإسلام؟ متى ينفض عن نفسه غبار القرون؟