تأملات في «أسلحة» عربية راقية وإنسانية

TT

كان سلاح النفط هو الوحيد في اليد العربية عام 1967، وأمكنه تحقيق ما يعوِّض الخيبة الناشئة عن السلاح السوفياتي في اليد المصرية، بل إن قرارا شجاعا ولا يخلو من المخاطرة اتخذه الطيب الذكر الملك فيصل بن عبد العزيز شجع أهل الاقتدار المالي النفطي على أن يحذو حذوه زمنذاك، ومنهم الملك إدريس السنوسي الذي «كافأت» الثورية العربية نخوته بالانقضاض على حكمه وهو خارج ليبيا، التي أنهكها الثوار الذين حكموا بعد ذلك بنزوات فكرية وسياسية على مدى أربعة عقود، وكان ختامها بالفواجع والدمار والانتقام والارتباك، نقيض ذلك الانقضاض الذي لم تُسفك خلاله دماء بشر ولا تهاوى فيه حجر.

بعد استعمال سلاح النفط للمرة الأولى وتأكيد فعالية هذا السلاح لجهة تماسُك الموقف الوطني، جاء سلاح الحجارة على أيدي الفتية الشجعان في بعض بلدات الضفة الغربية يرمون بها خلال انتفاضاتهم جنود الاحتلال الإسرائيلي، يؤكد فعالية سلاح أنتجته وطأة القهر والإذلال التي يمارسها الإسرائيليون، وليس نتاج مصانع أسلحة خفيفة تابعة لمؤسسات عسكرية. ثم أحيت الضرورة، باستعمال سلاح الحجارة، الحجر مجد لعبة فِتية من طبقة فقراء الناس يصطادون بواسطتها الطيور ومن دون الحاجة إلى البارود، وهي تلك «المصنوعة» من قطعتي مطاط مربوطتين بقطعة خشبية أو من فرع صغير لغصن شجرة. وأما الرصاصة فعبارة عن بعض الحصى يضعها الفتى مع «سلاحه» المتواضع هذا في جيبه.

بعد سلاح الحجارة، رمز الانتفاضة الفلسطينية الذي أصبح موضع تقليد انتفاضات كثيرة في عدد من دول العالم، جاء سلاح تمنينا لو لم يتم اعتماده، وهو سلاح «الاستشهاد» الذي كان في معظم الجولات يقتل، من جملة ما يقتل دون وجه حق، أرواحا حرَّم الله قتلها، خصوصا أرواح أناس أبرياء. وفي كل مرة كنا نتابع عملية «استشهادية»، وبالذات التي تتولاها إحدى الزهرات الفلسطينيات، كنا نحزن في الاتجاهين: حزن على الزهرة التي تقطَّع جسدها وتناثر مع أن بقاءها على قيد الحياة يمكن أن يفيد القضية أكثر، وحزن على أرواح أشخاص فاضت بفعل العملية «الاستشهادية»، وهؤلاء إما أطفال أو نساء أو رواد أسواق للتبضع وتمضية بعض الوقت في جولة داخل «السوبر ماركت» أو «المول».

قبل السلاح الذي نعيش منذ أسابيع فصوله، ونعني به «سلاح الأمعاء الخاوية»، كان سلاح حرق النفس التي أيضا حرَّم الله حرقها لكن ضيق ذات اليد من جهة وعدم القدرة على تحمُّل الإهانة من جهة أخرى هي التي جعلت الشاب التونسي البوعزيزي يشعل النار في جسمه ويقضي محترقا، وفي الوقت نفسه مُشعِلا النار في هيبة نظام مغرِق في الغرور والعنجهية. ثم يتحول رماد جسد البوعزيزي إلى إعصار أسقط النظام بكل أساساته وإلى نهاية غير كريمة لرئيس هذا النظام، كما يتحول إلى تحريض للآخرين الكثيرين في الأمة على أن يخوضوا غمار التغيير ولو بإيذاء النفس، ففي نهاية الأمر لا بد من التضحية.

لكن «سلاح الأمعاء الخاوية» يبقى أرقى أنواع الأسلحة من حيث تحمُّل أذى الجوع على أن يصاب بريء بسوء في عملية انتحارية المنتحر فيها في النار، وهذا بالنسبة إلى العمليات التي لا تستهدف مواقع عسكرية أو استراتيجية للعدو وإنما سوقا تجارية أو حافلة ركاب.

والسلاح الأرقى هذا فيه الكثير من روحية أسلوب المهاتما غاندي في مقارعة الذين احتلوا الهند، فقاوم تلك الإمبراطورية البريطانية التي كانت تتباهى بأن الشمس لا تغيب عنها، بالثبات على المبدأ والتمسك بالإرادة واعتماد بساطة العيش إلى جانب الصوم. كما أن في استعمال هذا السلاح إسقاط أي ذريعة للعدو، بل إن فيه إهانة لأجواء العظمة التي يعيشها. ولكن كما سلاح النفط حقق غرضا في حينه، وكذلك سلاح حجارة الانتفاضة، فإن «سلاح الأمعاء الخاوية» لا نريده أن يتحول إلى ظاهرة. فهو حقق الهدف المزدوج: إزالة الانطباع السيئ الناشئ عن ظاهرة العمليات الإرهابية التي هنالك طابور من المجندين فيها وأحدثها إيلاما على النفس العملية التي حدثت في دمشق يوم الخميس 10 مايو (أيار) 2012 وأعادت صورة الانفجارات التي تابعناها عبر شاشات الفضائيات وصفحات الصحف، إلى أذهاننا المشهد الرهيب لواقعة تفجير موكب الرئيس رفيق الحريري، وكيف تناثرت الأجساد واحترقت. كما أن واقعة دمشق جعلتنا نتساءل ما سبق أن تساءلنا عنه إزاء واقعة تفجير موكب الحريري. وخلاصة التساؤل: إذا لم تكن هنالك جيوب في الدولة اللبنانية المحكم الإمساك أمنيا بها، وتعمل هذه الجيوب لأطراف غير لبنانية هي التي قامت تخطيطا وتنفيذا بعملية التفجير، مطمئنة إلى أن أجهزة في الدولة اللبنانية تؤمِّن لها التغطية، وهذا من دون أن يخطر في البال أن محكمة دولية ستتشكل، أليس في استطاعة الطرف الممسك أمنيا بالوضع اللبناني أن يكتشف مسبقا العملية ويمنع وقوعها على نحو ما فعل الأمن السوري بالنسبة لعملية كانت ستنفَّذ في اليوم التالي (الجمعة 11 مايو) شبيهة بعملية دمشق التي لم يتم كشفها مسبقا وحدث الذي حدث؟

وفي ضوء هذا التساؤل نشأت المقارنة بين العملية التي استهدفت موكب الرئيس الحريري والعملية التي حدثت في دمشق. ومن شأن الاستغراق في التخمينات أن يصاب المستغرِق مثل حالنا بصدمة مقرونة بترداد قول الإمام علي: اذكر عند الظلم عدلَ الله فيك وعند القدرة قدرة الله عليك.

وقد نجد ونحن نسرد هذه التأملات في أنواع أسلحة ارتبط استنباطها واستعمالها بعرب ومسلمين مَن يقول: وماذا عن السلاح النووي الذي تقترب إيران من الإعلان عن أنها امتلكته؟ والإجابة الشخصية عن ذلك هي أنه إذا وُجد فلن يُستعمل، وإذا هو استعمل فيصيب الأمتين بمكاره، وإن تجربة باكستان العاقلة في الموضوع النووي دليل على ذلك، حيث إن هذه الدولة تعيش هواجس امتلاك هذا السلاح الذي قد يخطفه خاطفون أو يستعمله مغامرون. وفي الحالتين فإنه سيؤخر في مستقبل أجيال.

ومن هنا تبقى الأسلحة الواقعية والواعية والراقية من سلاح النفط، إلى سلاح انتفاضة الحجارة، إلى «سلاح الأمعاء الخاوية»، هي ما يجب أن نحافظ عليه ونستعمله من دون غيره في ساعات الشدة... التي نتمنى أن تزول بتفعيل «مبادرة السلام العربية» واقتناع إيران بها، بدل الصولات والجولات الكلامية للرئيس محمود أحمدي نجاد، ومنها أن الجزر الإماراتية الثلاث «حق تاريخي لإيران»، مع ملاحظة أن هذا «الحق» من فِعْل الشاه وليس من فِعْل الثورة الخمينية، ومنها أيضا «أن إسرائيل بعوضة وأن إزالتها لا تكون بالحرب، وإنما بقطع دول المنطقة علاقاتها مع الصهاينة». وإذا كان الأمر كذلك فلماذا ولمن كل هذه الترسانة الصاروخية الإيرانية؟ ولماذا الإصرار على امتلاك السلاح النووي؟ كما أن ساعات الشدة على الأمتين تنحسر عندما تقتنع إيران، وقبل فوات الأوان، بأن استقرارها من استقرار جارها العربي وأمنه. وعدا ذلك فكل التحديات إلى خراب.