تعريب الصراع السني ـ الشيعي

TT

بلغ الصراع بين العرب وإيران ذروته السياسية والإعلامية. ولم يبق لانتقاله إلى صدام مسلح سوى مبادرة إيران إلى تنفيذ تهديداتها العسكرية، لدول الخليج خصوصا، متعللة بعدوان إسرائيلي، أو أميركي/ أوروبي، على منشآتها النووية.

وقد يأخذ التدخل الإيراني شكل عمليات تخريبية، بحجة «حماية» الشيعة الخليجية من «عسف» أنظمة السنة. بل قد يتخذ شكل محاولة لإغلاق بوابة الخليج، لإلحاق الأذى بالاقتصاد الخليجي المرتكز على تصدير الطاقة النفطية.

النظام الإيراني لا يستطيع العيش، من دون تطوير و«تنمية» عدو خارجي. أميركا التي سحبت الشاه، لإحلال الخميني اللاجئ المحتمي بالغرب محله، باتت هي هذا العدو. فشل نظام رجال الدين المتحالف مع الفاشية العسكرية (فيلق القدس. الحرس الثوري. الباسيج) في تربية جيل إيراني مخلص لهذه الفاشية الدينية، اقتضى التوسع بإلهاء الإيرانيين بثقافة العداء لأميركا، استغلالا لضعف نفوذها الإقليمي، بانحيازها المدمن لإسرائيل.

بل دفع الشعور بانعدام الأمن والثقة بالنفس، إلى محاولة امتلاك القنبلة المخيفة، كرادع وحيد للتدخل الخارجي، تماما كما فعل النظام الكوري الشمالي. والنظام الإسرائيلي. وكما حاول أن يفعل النظام العلوي السوري. والنظام العشيري الصدامي.

في هستيريا تصريحات أحمدي نجاد الدونكيشوتية، جرى إلحاق إسرائيل بأميركا كعدوين لإيران. الخطير هنا هذا الجهد الإيراني المحموم لإلحاق العرب بـ«محور الشر» في المخيلة الإيرانية الدعائية. وعلى هذا الأساس، حققت الاستراتيجية الإيرانية نجاحا كبيرا في اختراق العرب، وتمزيق الحد الأدنى من التضامن العربي، بسحب نظام بشار من المحور العربي السعودي/ المصري.

وهكذا، فهذا النجاح ارتكز على افتعال وتضخيم صراع شيعي/ سني في المنطقة، لإخفاء تناقضات السياسة الاستراتيجية الإيرانية. فهي طائفية مسلحة ضد السنة في لبنان. علوية في سوريا. إخوانية سنية في غزة. شيعية تحريضية في الخليج. عنصرية فارسية في الموروث التاريخي.

الطريف في هذا النزاع الديني العبثي واللاعقلاني، أن الشيعي أو السني العادي لا يعرف ما هي الفوارق الدينية الأساسية بين المذهبين المتناحرين. من هنا، أطرح السؤال عن كيفية الخروج من هذا المأزق الذي يلهب مشاعر العداء بين ملايين المؤمنين.

بات من المستحيل إقناع النظام الديني/ الفاشي في إيران، بالكف عن اعتماد المذهبية الدينية كمرتكز لاستراتيجية التعامل مع العرب. تبقى المهمة على العرب أنفسهم، في الارتقاء بهذا النزاع إلى مستوى أرفع. وأوسع. وأنبل، من هذه المذهبية الطائفية الضيقة والبغيضة.

أتصور أن هناك حنينا كامنا لدى النظام العربي الوراثي بالذات، إلى إحياء الشعور بهوية الانتماء إلى العروبة، من دون التناقض مع الصحوة الدينية، لدى الغالبية السنية العربية.

بل لا يمكن تفسير المبادرات السياسية للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، خارج هذا الحنين والرغبة في الهوية والانتماء. فالدعوة إلى اتحاد خليجي موجهة إلى السنة والشيعة الذين تجمعهم العروبة، قبل أن يفرقهم الانتماء المذهبي الضيق.

بل مبادرة العاهل السعودي إلى الدعوة لضم الأردن والمغرب إلى شكل من أشكال الوحدة الاتحادية، تندرج أيضا في التصميم على إعلاء سور الحماية العربية، ضد الثغرات المذهبية التي أحدثتها الاختراقات الإيرانية.

أيضا أذهب إلى التاريخ، عندما أقول إن العاهل السعودي، منذ أن كان أميرا ووليا للعهد، بذل على مدى ثلاثين عاما محاولات جاهدة لتحقيق مصالحة عراقية/ سورية، تمهد لوحدة بين البلدين. هذه المحاولة بدت غريبة لدى المراقبين آنذاك، بحجة أنها لا تتفق مع المصلحة السعودية.

لكن ثبت أن الملك عبد الله بن عبد العزيز كان يرى في هذه المصالحة السبيل الوحيد لدعم «الأقلية» السنية العراقية، بغالبية سنية سورية، محافظة على عروبة العراق التي ما لبثت أن حوصرت، بغباء الاحتلال الأميركي الذي سلم العراق إلى نظام شيعي مشايع لإيران، بحجة أن الشيعة غالبية في العراق، من دون أي اعتبار لعروبتهم.

كنت أتمنى على الإعلام العربي عموما، والخليجي خصوصا، أن يكون صريحا في تفسير المبادرة السعودية، بأنها تصميم على حماية عروبة الخليج، وذلك لقطع الطريق على الهجمة الإيرانية/ الغربية، لتصويرها كمحاولة لفرض «هيمنة» سعودية.

هناك بكائيات إيرانية وشيعية على «التدخل» السعودي في البحرين. الكثير من العرب لم يدرك، بعد، أن إيران تخطط لتحويل البحرين إلى لبنان خليجي. فقد تمكن الدولار الإيراني من احتواء الشيعة اللبنانية، وتسليحها بحجة مقاومة إسرائيل. فإذا بها بعد تحييدها بالقوات الدولية، تنقلب إلى تهديد وغزو للسنة اللبنانية، بل وإقامة حكومة لبنانية يهيمن عليها «حزب الله»، وتتناغم مع إيران وحليفها النظام العلوي في سوريا.

هل يبدو الحنين الكامن لإحياء العروبة، دعوة رومانسية غير واقعية، في عصر هذه الصحوات والصراعات الدينية الطائفية والمذهبية؟ أجيب بأن التعريب محاولة لاسترداد الجيل العربي السني والشيعي، من هوة الصراع المذهبي البغيض الذي ركبته إيران في اختراقها العالم العربي.

التعريب إنقاذ لجيل الانتفاضة العربية، خصوصا في مصر، من فوضى الفراغ السياسي. انتفاضة بلا هوية هي حرية بلا انتماء. هي ديمقراطية صماء خطفتها قوى دينية تم تسييسها وتحزيبها، فأخفقت في تكييف الإسلام السياسي والإخواني مع الديمقراطية.

الدليل هذا الضياع «الديمقراطي» المحزن الذي غرقت به مصر، في وقت عرب الخليج وسوريا في أمسّ الحاجة إلى ثقل مصر السكاني، للتخفيف من ضغط الثقل السكاني المماثل في تركيا وإيران المؤثر سلبا على عروبة السنة المشرقية والخليجية.

هل العروبة تحتاج إلى نظام شمولي وزعيم أوحد بطولي، لكي تنتشر وتزدهر؟ ربما كانت كذلك في الناصرية والصدامية. وربما هي كذلك اليوم في نظام علوي يخفي، تحت راية العروبة، طائفيته العائلية المتسلطة، وحلفه اللامنطقي مع إيران المضاد للأمة العربية.

في العام المقبل، يمر مائة عام على المؤتمر السوري الأول الذي عقد تحت شعار الإيمان بعروبة سوريا. لست أذيع سرا عندما أقول إن أسرا كردية وتركية مستعربة قادت، تحت راية العروبة، نضال سوريا من أجل الحرية.

أشعر بالأسى عندما أرى العروبة غريبة الذكر على ألسنة «مناضلي» الانتفاضة السياسيين والمسلحين. عبثا يظنون أن سوريا يمكن أن تتماسك وتتوحد، بلا هوية. بلا انتماء. ينسون أن سوريا لا شيء بلا عروبة.

هل العروبة قومية عنصرية؟ قلت إن العروبة المنشودة مجرد إحياء لروح الهوية، وإنعاش لذاكرة الانتماء. العروبة الجديدة يجب أن تكون دعوة إنسانية نبيلة. مترفعة فوق مذهبية وطائفية «الإسلامات» المتسيسة.

لا عروبة بلا ضمان المساواة السياسية والثقافية لأقلياتها الدينية والعرقية، طالما أن هذه الأقليات تقبل بالتعايش الوطني المشترك، من دون إرهاصات عنصرية. وتطلعات انفصالية، تمعن في تمزيق الوطن العربي، بعدما تركه الاستعمار أشلاء مبعثرة. مشرذمة، تحت رايات «السيادة» و«الاستقلال».