لا مزاح مع الديكتاتور

TT

الأسبوع الماضي اختفت أخبار المقاومة السورية خلف الكثير من العبث السياسي والإعلامي، في الوقت الذي يقف فيه العالم مبهورا أمام تضحيات الشعب السوري احتراما للقرابين اليومية التي يقدمها طعما لنيران ديكتاتورية حمقاء، شعب فاجأ العالم وفاجأ نفسه بحجم التضحيات الكبرى التي يقدمها. يخرج علينا بعض أعضاء المجلس الوطني الانتقالي كي يقولوا كم هم مختلفون فيما بينهم، كما يخرج علينا التنسيقيون ليؤكدوا كم هي خلافاتهم عميقة مع الانتقالي، وما يزيد الطين بلة تصريح برهان غليون: «إذا انتخبتم بدلا عني فسوف أستقيل»! تلك التصريحات والأخبار والخلافات صرفت الأنظار عما يدور في سوريا، وتبع تلك الأخبار سيل من المعلقين الذين ينتمون - كما يقولون - إلى الثورة السورية المجيدة، تفنيدا وشرحا على فضائيات العالم حول أسباب الاستقالة وما هي مبررات الاختلاف.

على الرغم من قناعتي الشخصية بأن كل تلك الخلافات لا تعني تعويق الثورة، فإنه في المقابل هناك ضرر أن تقع تلك الخلافات على العامة بعد تضخيمها من النظام على أنها فشل للثورة. تلك مخاطرة لا أظن أن البعض في الخارج يعرف عواقبها الإعلامية، إنه عبث ما بعده عبث يتخطى سوء الإدراك إلى البلاهة السياسية. زاد من تلك البلاهة ما صرح به بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، حيث قال إن التفجيرات في سوريا من عمل «القاعدة»، وهي إشارة سبقه إليها بعض تصريحات صادرة من الإدارة الأميركية. بان كي مون لا ينطق عن الهوى، فهو قبل أن ينطق يستشير وتأتي الإشارة من متخذ قرار في الخارجية الأميركية بمثابة توجيه، ولكنه عاد من جديد ليقول إنه ليس لديه أي معلومات دقيقة في هذا الأمر، بعد ماذا؟ بعد أن استفادت مؤسسات الإعلام المنتمية للنظام السوري ومقربيه من تلك التصريحات، هل هي بلاهة على مستوى أممي؟!

إذا جمعنا الظاهرتين معا: عبث صادر من المجلس الانتقالي وبقية مجموعات المعارضة في الخارج، يتسور عليه الكثير من مدعي المعرفة ببواطن الأمور من جهة، وما يأتي من تصريحات دولية من جهة أخرى، نعرف على وجه الدقة أن هناك أوركسترا تعزف طوعا أو عن غفلة لإبعاد نظر الرأي العام عن تضحيات ومطالب الشعب السوري الحقة. حتى تلك الأخبار التي تركز على عدد القتلى كل يوم أيضا تصرف النظر عن الأهم، وهو ما يعانيه الشعب السوري ويتعرض له من إبادة يومية. لقد كذب الجميع المظاهرات العارمة في الجامعات السورية، كما كذبها على الأرض تماسك القيادة الناضجة والمتمرسة على الأرض.

لا أحد يمزح مع الديكتاتور، فقد قرر النظام السوري أن يتبنى ما كان يتبناه صدام حسين من قبل، أي أنه على استعداد لتصفية نصف الشعب السوري من أجل أن يبقى في الحكم حتى على الجماجم، أي مقولة القذافي القديمة «إما أن أحكمكم أو أقتلكم»، إما القصر أو القبر. القطبة المخفية أن الشعب السوري بأطيافه المختلفة قد قرر أن يذهب إلى النهاية في مقاومة الديكتاتور، وهو يعرف أنه لن يترك القصر إلا إلى القبر، شعب بهذه الصلابة تتمحك قيادته المفترضة في الخارج بهذا الشخص أو ذاك، وبهذه الفكرة أو تلك. لا جدال أن الشعب السوري قد أعلن أنه هو أو النظام، وأن كل الوسائل المتاحة مباحة؛ لأن التغيير السلمي لم يعد ممكنا، حيث فات زمانه مع سقوط أول الشهداء الذين يناهز عددهم اليوم العشرين ألف (يقارب عددهم شهداء حماه عام 1982)، أما من هم في السجون فإن عددهم فاق عشرات الآلاف.

أمام هذا الزخم من العار السياسي ومن المماحكات في داخل المؤسسات التي نذرت نفسها لتمثيل الشعب السوري في الخارج، كان البعض يريد أن يختلف على جلد الدب قبل اصطياده. إن كل ما يقال من أن الخلاف صحي ومطلوب في المجالس التي تمثل مقاومة الشعب السوري، هو قول مرسل لا يستقيم مع المنطق الصحيح ولا مع الهدف، وفوق ذلك لا ينسجم مع التضحيات الكبرى التي تقدمها الأم والشابة والولد والرجل العاديون في مدن وقرى سوريا. التمرينات الذهنية والخلافات الصغرى والبكائية على الكراسي وتوزيع المهام، شيء مخجل، بل عار على من يرتكبه. إنه المدخل الذي يفتحه هؤلاء بغباء أمام تشتت الجهد السوري المقاوم، ولا يأخذون في حسابهم كل تلك الدماء التي تراق وتسيل يوميا.

لا أحد يجادل في أن المهمة صعبة، وأن العصي توضع في العجلة من قبل قوى النظام، ولكن لا أحد يجادل أيضا في أن الوقت وقت التضحية ووقت تقديم المصالح العامة على مصالح مجموعة أو تيار أو شخصيات تثير الغثيان، عندما تخرج تلك الشخصيات على الفضائيات لتبرر موقفها من هذا الموضوع أو ذاك. الوقت وقت رص الصفوف وإنكار الذات، فالملاذ الوحيد لقطع دابر الديكتاتورية النكراء هو تجاوز الشقاق بأي ثمن، فمشاعر القلق والاستنكار بدأت تنمو في أذهان المتابعين لتضحيات الشعب السوري جراء هذا الشقاق العبثي الذي يعرف الجميع أن استمراره يضيع على هذا الشعب التضحيات الجسام التي تكبدها ولا يزال، وتطيل من عذابه، لأن الديكتاتورية لا تمزح ولا تنقصها الحيل في اختراع كل الأكاذيب والإشاعات، فما بالك إن كان الشقاق يقدم لهم على طبق من تصريحات؟!

مطلوب من كل من ينادي بالإطاحة بالديكتاتورية الفجة أن يتجاوز الصغائر وألا يترك الأصل متمسكا بفرع زائل، حيث إن استمرار هذا العبث السياسي يصرف كثيرين على المستوى الدولي عن المناصرة والدعم، ويفوت على الشعب السوري قرب قطاف ثمرات ثورته التي عُمّدت بالدم. يحتاج من قدم نفسه للقيادة أن يكون القدوة للمستقبل وترسيخ قواعد في العمل المشترك قائمة على قاعدة إنكار الذات من أجل هدف أسمى من كل الأسماء ومن كل التجمعات، وهو حرية الشعب السوري وفرض العدالة التي افتقدها لسنوات طوال، فالمزح مع الديكتاتور له ثمن باهظ.

آخر الكلام:

السيدة ليلى الطرابلسي سوف يصدر لها كتاب قريبا بالفرنسية يشرح موقفها من الثورة التونسية وأيضا موقف زوجها زين العابدين، يقول من اطلع على مسودة الكتاب إنها تتهم الجيش التونسي بتغيير الولاء، مما تسبب في سقوط حكم زوجها، كلهم الآن يبحثون عن مبرر، لكن لا اعتراف بأن الناس العاديين يمكن في ظروف غير عادية أن يسحقوا جلاديهم!