مثالية «هيومان رايتس ووتش»

TT

منظمة «هيومان رايتس ووتش» مستاءة وحانقة على حلف شمال الأطلسي «الناتو»؛ بسبب ما ذكره تقريرها عن تسبب نيران الحلف بمقتل 72 مدنيا ليبيا، بينهم أطفال ونساء، خلال حرب الناتو على نظام القذافي، ومنها طلعة جوية استهدفت قرية «ماجر» التي تبعد 160 كيلومترا شرق طرابلس، عندما أدى هجومان جويان لحلف الأطلسي على مجمعين عائليين إلى قتل 34 مدنيا وإصابة أكثر من 30 آخرين. «الناتو» رد مدافعا بأن مجمعي «ماجر» كانا قاعدة تجمع وإيواء عسكرية لقوات القذافي.

بالتأكيد لحياة كل إنسان قيمة مستقلة، ولكن في ظروف الحروب لا تكون الأوضاع مثالية على الأرض، ومن العبث محاولة تصوير ذلك. فمن بين نحو 26 ألف طلعة جوية قام بها «الناتو» منها 9600 مهمة قصف، وتدمير 5900 هدف، من المرجح وقوع ضحايا مدنيين غير مستهدفين في الأساس، ولكن من الصعوبة تجنب وقوعهم مهما كانت النوايا طيبة والجهود مبذولة، فقوات «الناتو» كانت هي خط الدفاع عن الليبيين خلال معركتهم ضد نظام القذافي، وكانت رأس الحربة في الهجوم عليه.

المعلومات التي تتحصل عليها المقاتلات من غرف العمليات في أي معركة هي بوصلتها لضرب مواقع محددة. وفي كثير من الأحيان تكون هذه المعلومات إما غير دقيقة، أو قد تكون المواقع المستهدفة بالقصف فعلا مخابئ لمسلحين اختاروا عن عمد الانزواء في مناطق سكنية، فكثيرا ما يستخدم أحد، أو كلا، طرفي المعركة المدنيين دروعا في حروب مماثلة. نذكر حينما اتخذ حزب الله في حربه مع إسرائيل في صيف 2006 مناطق آهلة بالسكان مراكز لإطلاق صواريخه تجاه إسرائيل، لتقوم إسرائيل بالرد فتصيب نيرانها المساكن العائلية، ليخرج في اليوم التالي الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، ويعلن أن إسرائيل تستهدف المدنيين، ثم تنطلق تقارير المنظمات الحقوقية بالتنديد.

الحرب ليست لعبة «بلاي ستيشن» تنكشف فيها الأهداف ومكونات الأهداف بالتفصيل أمام اللاعب على الشاشة. في معركة شرسة كمعركة إسقاط نظام القذافي القمعي أودت بحياة 50 ألف إنسان، يبدو من الغريب الحديث عن مقتل 72 مدنيا، ومن ثم محاسبة الحلف الذي دخل منقذا لحياة مئات الألوف من الناس، أو تشويه تدخله الذي أنقذ سكان بنغازي من مذبحة محققة، هذا العمل من منظمة حقوق الإنسان في حد ذاته ممارسة ضد حقوق الإنسان.

إن كان من الأخلاق مراعاة حقوق الإنسان فإن من المنطق مراعاة حقوق الناس، أي جماعة الإنسان، ولو كان هذا الأمر واردا لما كان مقتل 72 مدنيا خلال معركة تحرير يعتبر قضية، في حين يسقط هذا العدد في سوريا كل ثلاثة أيام منذ عام.

حق الجماعة أمر جدير بالاعتبار في النظام الدولي الذي يسيّر حياة الدول، هذا النظام الذي أصابته لعنة الشعوب المستضعفة فاهتزت قيمته في ضمائر الناس وهم يرونه يقف عاجزا حائرا ومترددا أمام مآسٍ إنسانية لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا، فتراجعت هيبته ومكانته القانونية حتى بالمقارنة بنظام المرور الذي يسيّر الشوارع بسياراتها ومشاتها آخذا بالاعتبار حياة الناس وسلامتهم.

من حق المنظمة الحقوقية فهم حيثيات مقتل الليبيين المدنيين، ولكن من الأهمية كذلك أن تتحلى تقاريرها بالواقعية والموضوعية، فملاحقة «الناتو» باللوم على مقتل 72 مدنيا في معركة أزاحت نظام القذافي الذي امتهن 6 ملايين ليبي بالقتل والتعذيب والتهجير طوال أربعين عاما يعكس نظرة مثالية لوضع يصعب قياس إنسانيته بالمسطرة والقلم، لأنه متخم بالفوضى والتشويش وضيق الوقت.

* كاتبة سعودية

[email protected]