عندما تعترض الممارسة المصلحة: درس من الكويت

TT

البعض يرى أن ممارسة الديمقراطية – حتى لو كانت في حدها الأدنى ودون آليات تطوير – فرصة لتقدم المجتمع، والبعض الآخر يعتبرها مأزقا، خاصة إن كانت أدواتها لا تسمح لها بالتقدم والتطور وتعجز عن درء المفاسد التي تلحق بالمصلحة العامة.

ما يحدث في الكويت ظاهرة تستحق التأمل، ففي وقت كان العالم العربي مشغولا فيه بما يحدث في مصر من معركة انتخابية حول الرئاسة، وما يحدث في سوريا من تدفق مستمر لحمام الدم، يجري في الكويت ممارسة ديمقراطية ضج لها العقلاء وحيرت الحكماء، إلى درجة أن تناقل الناس فيما بينهم رسائل تقول باختصار: أين المفر؟

على صعيد أول قدم وزير المالية مصطفى الشمالي استقالته وهو على منصة الاستجواب البرلماني؛ لأنه كان مقتنعا بأن ما يقوله ردا على استجواب طويل وشائك ليس مهما ولا أحد ينصت إليه لبيان الحقيقة من الإشاعة، فقد بيت البعض فكرة إزاحته من منصبه بصرف النظر عما يقول أو يفند، وهو قد خدم في منصبه أكثر من أربع سنوات متتالية بعد أن كان وكيلا لوزارة المالية سنوات سابقة أخرى، وحتى بعض معارضيه لم يستطيعوا القول بعد تقديمه استقالته إلا إنه رجل صاحب يد نظيفة! وهذا بالطبع يتنافى مع ما استخدم من لغة شائنة في حقه على المستوى الشخصي، خرجت حتى عن لياقة الكلام في المنتديات العامة. الخروج عن لياقة الكلام صار ظاهرة عامة ملازمة للعمل البرلماني الكويتي في السنوات الأخيرة، وهي تزداد ضراوة مع تقدم الزمن ولا تتراجع.

وعلى صعيد ثان انفجر في الساحة السياسية الكويتية ما عرف شعبيا بحكم محكمة تجارية في شيكاغو، بأن تدفع مؤسسة كويتية (مملوكة للحكومة بالكامل) تتعاطى العمل في المشتقات النفطية، ما قيمته ملياران ومائة ألف دولار غرامة، بسبب تراجعها عن عقد مع شركة نفط أميركية، مما شعر معه المجتمع الكويتي بأن هناك خللا جسيما يدفع الشعب الكويتي مغبته من قوته، وهو مبلغ يرى البعض أنه يمكن أن يوفر إسكانا لخمسة آلاف أسرة كويتية على سبيل المثال. وتفاصيل الصفقة أن الحكومة السابقة، من خلال مؤسساتها، أنجزت الصفقة، وبعد التوقيع عليها ضج البعض في المجلس المنتخب – وكثير منه بغير علم بالتفاصيل – من الصفقة، مما حدا بالحكومة نزولا على تلك الضجة السياسية، أن تلغي الصفقة.

التفاصيل تطول، باختصار فإن شركة «الداو»، وهي شركة أميركية عملاقة تتعاطى في شؤون الطاقة والنفط، لها مع الكويت شراكة استراتيجية طويلة المدى وتستثمر في الكويت بما قيمته ستة مليارات دولار مع شركات كويتية، كما أن لها مع شركة «الصناعات البتروكيماوية» الكويتية (مملوكة للحكومة) مصالح مشتركة. عرضت شركة «الداو» على «الصناعات البتروكيماوية» بيعها جزءا من استثماراتها في أوروبا والولايات المتحدة؛ لأنها بحاجة إلى رأسمال تريد أن تستخدمه في صناعات بتروكيماوية متقدمة، وتم في عام 2006 توقيع مذكرة تفاهم حول الموضوع، ورصدت الشركة الكويتية 12 مليون دولار من أجل القيام بالدراسات اللازمة، منها الفنية والمحاسبية ودراسات الجدوى التي تحتاجها من أجل الوصول إلى قرار بالمشاركة أو عدمها، وبالفعل جاءت الدراسات لتقول إن بعض المصانع التي تملكها «الداو» غير ذات جدوى، وأما الباقي فإن الصفقة ممكنة، وتم استبعاد تلك المصانع وقدرت قيمة الباقي بأكثر قليلا من سبعة عشر مليار دولار، تدفع الشركة الكويتية نصفها للدخول في الشراكة الجديدة، وقدر الخبراء بعد دراسات أدخلت في برامج للنماذج الاقتصادية المعروفة أن الفائدة من المشروع محققة، إلا أن التوقيت كان في عام 2008، أي وقت نذر الأزمة المالية العالمية، فطلب من المفاوضين التفاوض من جديد مع شركة «الداو»، وبالفعل تم تخفيض المساهمة 1.4 مليار دولار، حتى أكثر من المتوقع كما يقول الخبراء، وكان ذلك يعني مكسبا محققا للشركة الكويتية، وتمت الموافقة على السير في المشروع بعد كل الدراسات المعمقة له، ووضع بند (مشارطة) يستفيد منه الطرفان حفاظا لحقوقهم في حال تراجع أحد الأطراف عن الاتفاق بعد أن تم التوقيع على المشروع نهائيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، ويخضع ذلك البند الشرطي للتحكيم من خلال مؤسسات دولية مختصة. باختصار هي صفقة تجارية ممحصة تتعامل في سلعة نادرة (هي النفط ومشتقاته) ومضمونه الربح تجاريا، كما أنها مرت على عدد من الأجهزة الوطنية المختصة والمتعاملة في هذا القطاع لمدة طويلة.

ما إن وصلت أخبار الصفقة إلى بعض السياسيين، خاصة في المعارضة وقتها (2009) حتى قامت القيامة السياسية ولم تقعد، قيل إن شركة «داو» قد باعت الكويت مصانع «خردة»، وقيل إن هناك متنفذين وراء الصفقة، حتى أشير لبعضهم بالأسماء في المنتديات الخاصة، وهكذا طرحت كرة الثلج التي تدحرجت لتتضخم وتكبر، حتى أصبح معظم رواد ديوانيات الكويت وقتها خبراء في الاقتصاد النفطي وفي التجارة الدولية، لم يعد أحد يريد أو لديه الأناة أن يستمع إلى بعض الحقائق، تدخلت كثير من الأهواء حتى ضاع صوت وزير النفط وقتها في الضجة، وضرب بعرض الحائط آراء المتخصصين، وبدأت الأمور تتحول إلى أزمة طرفاها مصلحون محافظون على المال العام والطرف الآخر (مستفيدون مبذرون وربما عديمو ضمير أيضا) ودخلت بعض وسائل الإعلام والأقلام في الموضوع إلى أن وجد المسؤولون أنهم مقدمون على أزمة سياسية وسرقت منهم المبادرة.

لم يقف أحد - إلا قلائل - أمام ذلك التيار الشعبي المسيس ليقول انتظروا قليلا. المهم ألقيت الصفقة في 28 ديسمبر (كانون الأول) 2009، ودخل النزاع بعدها في التحكيم وبات في دهاليزه حتى الأسبوع الماضي، عندما حكمت محكمة شيكاغو التجارية بأن تدفع الكويت 2.1 مليار دولار (أكثر من 600 مليون دينار) تعويضا كما جاء في المشارطة التحكيمية، وقد طالبت الشركة بأضعاف ذلك المبلغ. واندلع الجدل السياسي من جديد، من المسؤول عن كل ذلك؟ لقد تأكد كاتب هذه السطور من أكثر من مصدر أن الحقائق تقول إنه لا علاقة البتة لوزير النفط الحالي بالقضية كلها، البعض يريد أن يلبسه تلك المشكلة، وأيضا لا وسيط في الصفقة الأولى، هي بالتأكيد من شركة إلى شركة، وتحت عيون المسؤولين، والأسماء التي زج بها على أنها «الوسيط أو الوكيل» قد زجت للتعمية والتشويه السياسي.

عرضت ما تقدم وباختصار شديد لأقول إن تسييس العمل الاقتصادي، خاصة من دون تقصي رأي أهل الخبرة، هو عمل يؤدي إلى كوارث، كما أن عدم الوقوف أمام التجهيل السياسي بحزم يدفع ثمن أخطائه المواطن الذي يؤخذ بالصياح، وأن الممارسة السياسية إن كانت ميكافيلية فهي تورث العدمية المقيتة وتؤدي إلى خراب الأوطان!

آخر الكلام: صدق من قال:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم!