جولة الانتخابات الأولى في مصر

TT

كما كان متوقعا، لم يحصل أي من المرشحين لرئاسة الجمهورية المصرية على نسبة 50 في المائة + 1، التي تضمن له الفوز من الجولة الأولى، ومن ثم كان ضروريا المرور بجولة أخرى بين أعلى مرشحين، وهما (ويا للمفاجأة) كانا الفريق أحمد شفيق والدكتور محمد مرسي. الأول مستقل، أو هكذا جاءت أوراق ترشيحه، ولكنه جذب أنصار الحزب الوطني الديمقراطي السابق الذي بدأ يفيق من هول مفاجأة الثورة والسقوط السريع لمبارك، ويعود إلى الساحة وقد رأى أن ما فعله «الثوار» بالبلاد يهدد، ليس فقط النظام السياسي، وإنما الدولة كلها. والحقيقة أن أنصار الحزب «المحلول» لم يكونوا هم وحدهم الذين جذبهم الفريق، وإنما كان معهم كل من اشتاقوا إلى الأمن والأمان والاستقرار، ونظروا بقلق إلى الاعتداء على المؤسسات العامة، ورأوا أنه آن الأوان أن تعود مصر مرة أخرى إلى مسيرتها التنموية، أو كما يقال: «تدور عجلة الإنتاج».

والثاني الدكتور محمد مرسي، الذي كان حتى وقت قريب حصانا أسود، فقد دخل السباق متأخرا واحتياطيا للمهندس خيرت الشاطر الذي أزاحته اللجنة العليا للانتخابات من قائمة المرشحين، ومع ذلك، فقد استطاعت القدرة التنظيمية الجهنمية لحركة الإخوان المسلمين أن يضعوه مع الفريق شفيق في قائمة المنافسة النهائية. وعلى الرغم من هذا النجاح الكبير، فإن فوز الدكتور عكس تراجعا في شعبية «الإخوان» الذين حصلوا على 44 في المائة من الأصوات أو نحو 10 ملايين صوت في الانتخابات التشريعية، أما هذه المرة فقد حصلوا على 25 في المائة أو ما يزيد قليلا على خمسة ملايين صوت.

ولكن نجاح الفريق والدكتور لم يكن فقط نتيجة ما نجحا في جمعه، وإنما أيضا نتيجة فشل آخرين في اتخاذ القرارات المناسبة، أو على الأقل التي تناسب الحالة المصرية. فقد كان قرار عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح (وكلاهما كان في المقدمة) بالمناظرة في قناتي «ON TV» و«دريم» - اعتقادا منهما بأن ذلك يثبت مواقعهما - وبالا عليهما، حيث تمكن كلاهما من الآخر، وفضح عوراته، وبدا كلاهما مهتما بالتقليل من شأن الآخر أكثر من تقديم أفكار جديدة. لقد كانت المناظرة بداية التراجع لكليهما، وخاصة عمرو موسى، أما عبد المنعم أبو الفتوح الذي جاءه المدد من السلفيين، فقد فشل في عقد اتفاق تحالف انتخابي مع حمدين صباحي يمثل قوى الثورة المختلفة، فحصلا معا على ما كان يضع أيا منهما في المقدمة، ولكنهما منفصلان خرجا من السباق، مما جلب عليهما اللعنة من القوى الثورية التي بات عليها الآن أن تختار بين الفريق الممثل للنظام السابق والدكتور الممثل لنظام تعود جذوره إلى الفترة العثمانية في العالم العربي.

على أي حال، لم تكن الرحلة سهلة لجميع المرشحين، ولكن الثابت أن استطلاعات الرأي العام نجحت في تحديد الخمسة المتنافسين حقا بين 13 مرشحا، وهم أحمد شفيق ومحمد مرسي وحمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وعمرو موسى. وظهر أن من تبقوا من المرشحين لم يكونوا أكثر من واجهات ربما بدا بعضها براقا، مثل خالد علي اليساري أو هشام البسطاويسي، القانوني البارز، أو سليم العوا المفكر الإسلامي، إلا أنها في النهاية لم تكن سوى أدوار صغيرة في قصة كبرى. كما نجحت الاستطلاعات أيضا في رصد الهبوط السريع لعمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح قبل أسبوع من الانتخابات، والصعود السريع لحمدين صباحي وأحمد شفيق ومحمد مرسي. ولكن من جانب آخر فشلت هذه الاستطلاعات في تحديد الفائزين، وكان التقدير أنه على الرغم من الصعود والهبوط، فإن عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح كانت الفرصة لا تزال لديهما لتصدر السباق.

يبقى أن النتيجة في النهاية ربما تعطي الانطباع بأن السياسة المصرية، على الرغم من الثورة والفورة ومليونيات ميدان التحرير، انتهت إلى ما كانت عليه السياسة المصرية خلال العقود الستة الأخيرة؛ الدولة والإخوان المسلمين. وطوال ستين عاما كان الصراع السياسي والأمني قائما بين الدولة والجماعة «المحظورة». الآن انقلب الحال، ولكنه ظل على حاله معكوسا فقط حينما بات جوهر السياسة المصرية هو الإخوان المسلمين في مواجهة الحزب «المحلول»، بعد أن تم حل الحزب الوطني الديمقراطي. وبقيت كل القوى الأخرى من ثوار وليبراليين ويساريين على هامش السياسة المصرية، كما كانت دائما لها صوت وضجيج، ولكنها لا تحسم أمرا، ولا تقيم دولة أو حكومة أو تنفذ برنامجا من أي نوع.

وقد يكون ذلك فيه قدر غير قليل من التبسيط؛ فالحقيقة هي أن القوى التقليدية للدولة (أو الحزب الوطني الديمقراطي) لم تعد على حالها، فقد رجّتها الثورة رجّا، حتى وجدت صروحها تتهاوى، ومن ثم رجعت إلى برامج الإصلاحيين فيها، الذين تم تجاهل معظم أفكارهم خلال فترة الحكم السابقة.

ولذا فإنها عادت إلى أصحاب الخبرة؛ أحمد شفيق وعمرو موسى، لكي يخلقا حزمة جديدة من البرامج والسياسات معا، ولكن كليهما اتبع استراتيجية مختلفة؛ أحمد شفيق كان وجها صريحا مواليا للنظام السابق وسياساته مضافا إليه ما جدّ من تعديلات ديمقراطية وليبرالية، أما عمرو موسى، فحاول أن يكون من جنود الثورة والمعارضة القديمة مضافا لها ليبرالية ومدنية صلبة.

التجربة على أي حال أثبتت أن الأول بصراحته ووضوحه كان هو الفائز، بينما تراجع الآخر، لأنه إذا كان الناس يريدون الثورة فإن مكانها لم يكن وزيرا في النظام القديم، حتى ولو كان رجل دولة بكل ما تعنيه الكلمتان من معنى.

على الجانب الآخر، فإن «الإخوان» لم يعودوا كما كانوا، وكما رأينا، وخلال أربعة شهور فقط من الوجود الشرعي في مجلس الشعب، يواجهون واقعا آخر. فقد انهزم مشروعهم للجمعية التأسيسية، وبحكم فوزهم الكاسح في الانتخابات التشريعية تكون ضدهم تحالف سياسي يخشى من سيطرتهم، ولم يكن أداؤهم موفقا في تأييد الوزارة ثم معارضتها ومحاولة سحب الثقة منها. ولا كان الأمر كذلك عندما نفوا نيتهم ترشيح مرشح لرئاسة الجمهورية، فإذا بهم يقومون بترشيح مرشحين في سابقة لم تحدث في تاريخ الأحزاب.

والخلاصة، وعلى الرغم من الفوز، أنه ربما وصلت فضيلة التواضع إلى «الإخوان»، حتى باتوا في حاجة إلى التعاون مع القوى الأخرى. ولكن الأمر لم يكن تغيرا في قطبي السياسة المصرية القديمة فقط، وإنما أيضا ظهرت قوى جديدة وجدت مكانها وموطنها لدى الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الإسلامي الليبرالي المنفتح على كل الاتجاهات والمنتقد لجماعته الأم (الإخوان المسلمين)، وكذلك وجدت ملاذا لدى حمدين صباحي، اليساري الناصري المدافع عن الفقراء، ولكنه المجدد غير المتعصب لا للعمال أو الفلاحين أو حتى القطاع العام.

النتيجة هي أنه، على الرغم من وجود رموز وعلامات من الماضي، فإن الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية أظهرت أن جديدا جاء، وربما كان ما أكثر منه مقبلا.