هل تحولت سوريا إلى دولة «فاشلة»؟!

TT

بين عامي 1991 و1995، قتل في البوسنة ما يزيد على 300 ألف إنسان في واحد من أسوأ الفصول الدموية في التاريخ المعاصر، وخلال تلك الفترة أحجمت الولايات المتحدة عن التدخل في القضية بحجة أنها مشكلة أوروبية ينبغي على الأوروبيين حلها، لكن كانت أوروبا عاجزة عن التدخل لأسباب متعددة، أهمها المعارضة الروسية لأي تدخل عسكري في النزاع. ولأكثر من ثلاثة أعوام بعثت الأمم المتحدة بقوات لحفظ السلام، لكن تلك القوات كانت عاجزة، وبلا صلاحيات أو سلاح لمواجهة آلة القتل الصربية. فقط حين قرر الأميركيون التدخل تغيرت موازين الأمور، فقد تم التغاضي عن تسليح المسلمين في الوقت الذي باشر فيه الأميركيون مفاوضات شاقة مع الروس والأوروبيين بغية الوصول إلى حل يوقف الجرائم ضد الإنسانية بحق المسلمين والكروات، وبعد مفاوضات استمرت 14 أسبوعا توصلت الأطراف إلى اتفاقية «دايتون» (ديسمبر/ كانون الأول 1995).

في كتابه «إنهاءً للحرب» (1999)، يشير ريتشارد هولبروك، مساعد وزير الخارجية الأميركي – آنذاك – إلى أن تأخر التدخل الخارجي في القضية البوسنية قاد إلى نتائج كارثية، لعل أبرزها انهيار دولة البوسنة والهرسك، وصعوبة إعادة الثقة بين المكونات الاجتماعية من العرقيات والطوائف إلى الحالة التعايشية التي كانت عليها قبل بداية الحرب، فمن جهة أدى الاقتتال الداخلي والمذابح المروعة إلى حالة من العداء المتجذر والغضب بين الصرب والمسلمين بحيث بدا التعايش أمرا صعبا بعد كل تلك الخسائر البشرية القاسية. ويضيف هولبروك أنه كان يدرك أنه وزملاءه يقومون بمهمة مستحيلة، ولكن لم يكن هناك بديل إلا بإقناع الأطراف كلها بأنه قد حان وقت حقن الدماء، وأن السبيل الحقيقي للسلام لن يتوافر إلا بالغفران الاجتماعي والتفكير في المستقبل للأجيال القادمة.

ألا يذكرك هذا التاريخ بما يجري اليوم في سوريا، حيث أمعن النظام البعثي المتكئ على الطائفة في اقتراف جرائم ضد الإنسانية مروعة تحت غطاء روسي وإيراني، بل ودعم لوجيستي ودعائي من زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله، وبتواطؤ خفي من بعض الأطراف الإقليمية؟ اليوم تقف الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية مترددة أمام ما يحدث، وحتى حين اقترف النظام مذبحة إنسانية بحق الأطفال والنساء في «الحولة»، لم يتمكن مجلس الأمن إلا من إصدار قرار إدانة، وعلى الرغم من ذلك سافر المبعوث الدولي كوفي أنان للقاء الرئيس السوري بشار من دون عزاء لأولئك الذين فقدوا ذويهم في جرائم حرب مروعة.

أمام هذا المشهد المؤلم يتبدى لنا أن الدولة المدنية السورية كما عرفناها خلال العقود الماضية - أو ما بقي منها - تسير نحو الهاوية، وربما وصلنا إلى مرحلة باتت معها استعادة هيكل الدولة، بل والسلم الاجتماعي، أمرا عسيرا للغاية. إن أكبر خطر يواجه الدولة السورية اليوم ليس بقاء نظام الرئيس الأسد، فهو قد استنفد كل خيارات ومحاولات البقاء، ولكن في اضمحلال سيادة الدولة السورية، بحيث بات تحولها إلى دولة «فاشلة» - للأسف - أكثر السيناريوهات احتمالا.

المتأمل في واقع المعارضة السورية في الخارج، وانقساماتها المتكررة، يدركه اليأس من قدرة السوريين في هذه المرحلة على إجراء عملية انتقالية للحكم فيما لو سقط النظام، وما هو أكثر خطورة أنه لا توجد حتى الآن شخصيات سياسية مؤهلة لملء الفراغ في قصر المهاجرين. إن عدم قدرة السوريين على الخروج ببديل مقنع وفاعل في الخارج، وتفتت قوى الداخل وضعف ارتباطها بالمؤسسات الخارجية، تنذر بزوال الدولة السورية كما عرفناها في السابق. سوريا اليوم تبدو مزيجا من التجربة العراقية واللبنانية، فهناك تشظٍّ طائفي ومناطقي يصعب رتقه، وحتى لو سقط النظام القائم اليوم فليس ثمة أي شواهد أو دلائل على أن السوريين قادرون على إقامة نظام سياسي بديل يوفر الثقة والاطمئنان لعموم السوريين بغض النظر عن طوائفهم أو مناطقهم أو مذاهبهم السياسية.

طرح مثل هذا التساؤل ليس من باب التثبيط، أو التقليل من محاولات السوريين لتحرير أنفسهم من نظام ظالم ومجرم، لكنها ضرورة للوعي بما آلت إليه الحالة السورية من تشظٍّ واضمحلال. لقد نجح نظام بشار الأسد بطريقته الانتحارية في إيقاظ الفتنة الطائفية، وتفتيت البلد إلى كانتونات موزعة بحسب الانتماءات الطائفية والمذهبية. ليس هذا فحسب، بل تمكن من تدويل القضية، واستدعاء بعض الأطراف الإقليمية إلى ساحة الصراع السورية. وما حدث في لبنان خلال الشهر الماضي هو نذير تدهور في الملف الشامي، حيث تمكن النظام من توريط أطراف مجاورة كلبنان والعراق في الأزمة السورية، وبدا تدفق اللاجئين على لبنان والحدود التركية يفوق في نسبته قدرة تلك البلدان على الاحتمال من دون أن تتوافر حتى الآن جهود دولية قوية لإغاثة أولئك المنكوبين. المشهد الذي رسمه سمير عطا الله في عموده قبل أيام مؤلم للغاية، حيث يقول «تعودنا في لبنان أن نرى عمالا سوريين في كل مكان، يأتون إلى هنا يبنون ويحرثون الأرض منذ سنوات طويلة جدا، لكننا لم نكن نرى مثل اليوم عمالا في الثانية عشرة من العمر يخلطون الإسمنت ويحملونه على رؤوسهم. هذه هي الحرب».

طبعا، ربما لا يعجب البعض الاعتراف بهذه النتائج، لكن الوعي بها ضروري إذا كانت تلك الأطراف معنية حقا بحقن دماء السوريين، واستعادة الأمن والاستقرار لهذه الدولة المكلومة. إنه لمن المحزن أن يتمكن بشار الأسد وأعوانه من تقويض الدولة السورية - على طريقة «الخيار الشمشوني» - في المرحلة العسيرة من عمر التغيير الذي يطال الساحة السورية. علينا أن نتذكر أن سوريا ظلت منذ الاستقلال تمر بحالة من اللااستقرار، مثلتها الانقلابات المتكررة، وأن حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد على الرغم من مساوئه وخطاياه فإنه كان الفترة الوحيدة التي تمكنت فيها الدولة السورية من تحقيق استقرار نسبي يعود السبب فيه إلى استخدام العنف المفرط من قبل الدولة ضد المدنيين، ولكن مع مرحلة الابن تبدد ذلك الاستقرار الوهمي لتحل مكانه الحرب الأهلية.

في السبعينات من القرن الماضي، اهتم الراحل إدوارد آزار - البروفسور الأميركي من أصل لبناني - طيلة حياته بالنزاع الأهلي في لبنان، وكان واحدا من أهم خبراء النزاع في الشرق الأوسط. عشية توقيع اتفاق الطائف شُخّص إدوارد بمرض السرطان القاتل، وتوفي بعد ذلك بعام وبضعة أشهر. وفي واحد من أهم كتبه «انبعاث لبنان الجديد: حقيقة أم خيال» (1984)، حذر إدوارد من أن اختلال التوازن الديموغرافي - بسبب النمو السكاني الشيعي المرتفع - في لبنان خلال الستينات والسبعينات قد عطل فرصة البلد في الاستقرار، وأننا شئنا أم أبينا فإن المحاصصة السياسية ستتغير مع كل مولود يولد من هذه الطائفة أو تلك، ومع كل مهاجر يغادر البلد هربا من التمييز والتخويف الطائفي. يقول إدوارد «على الرغم مما قد يحمله المستقبل لهذا البلد المعتل، فإن تعدديته - بلا شك - لن تكون حائلا دون أن يلعب الشيعة الدور الرئيسي في تقرير مصيره.. إن خيرا، وإن شرا». لقد صدق تنبؤه، فقد تمكن حزب الله، وهو حزب أصولي متطرف، من احتلال الدولة وفرض مصالح رعاته في طهران ودمشق على بلد صغير تخطفته الضغوط الإقليمية فصار ملعبا مباحا.

ما كان يخشاه آزار في الحالة اللبنانية ها نحن نراه يتكرر في المشهد السوري، حيث أدى تفرد الحزب والاستقواء بمخاوف الأقليات إلى ما نشهده من حرب أهلية بين طرفين في سوريا، أحدهما يحاول البقاء عبر استخدام أفظع أساليب الترويع والجريمة، والثاني طرف أعزل اضطر بعض أفراده إلى حمل السلاح - أو ما بقي منه - لمقاومة آلة القتل والترويع التي تفتك بأبناء الوطن الواحد.

ليس سرا أنه بسقوط هذا النظام ربما يخسر قادة الحرس الثوري في إيران حليفا - أو تابعا بالأحرى - ولعلهم يدركون الآن أنه من الأفضل مساعدة النظام على تدمير البلد وإفشاله ليحرموا السوريين من تحرير دولتهم من هذا المحور «الممانع والمقاوم»، وكل يوم يمر في ظل بقاء هذا النظام يُقرّب سوريا أكثر من حافة الانهيار التام.