تعميق التعاون الاستراتيجي وتعزيز التنمية المشتركة بين الصين والعرب

TT

في 31 مايو (أيار) الحالي، ستعقد الدورة الخامسة للاجتماع الوزاري لـ«منتدى التعاون الصيني - العربي» في تونس. في مطلع عام 2004، قام الرئيس هو جينتاو بزيارة تاريخية لمقر جامعة الدول العربية، حيث طرح مبادرة لإقامة الشراكة الصينية - العربية الجديدة القائمة على أربعة أركان؛ وهي: تعزيز العلاقات السياسية على أساس الاحترام المتبادل، وتكثيف التبادل الاقتصادي والتجاري بهدف تحقيق التنمية المشتركة، وتوسيع التواصل الثقافي بما يحقق الاستفادة المتبادلة، وتوثيق التعاون في الشؤون الدولية من أجل حماية السلام العالمي وتعزيز التنمية المشتركة. وحددت هذه المبادرة بكل وضوح اتجاهات العلاقات الصينية - العربية في القرن الجديد، فوجدت تجاوبا إيجابيا من قبل القادة العرب. وأثناء هذه الزيارة بالذات، أعلن الجانبان؛ الصيني والعربي عن تأسيس «منتدى التعاون الصيني - العربي» بوصفه إطارا مهما لتعزيز الحوار والتعاون الجماعي بين الصين والدول العربية.

وعلى مدى الأعوام الثمانية الماضية، بذل الجانبان جهودا ملموسة لدفع الشراكة الصينية - العربية الجديدة على ضوء توافق الآراء الذي توصل إليه الرئيس الصيني والقادة العرب، حيث عقدت أربع دورات من الاجتماع الوزاري في إطار المنتدى، وشهدت علاقات التواصل الودي والتعاون المشترك بين الجانبين تطورا مستمرا في مجالات السياسة والاقتصاد والتجارة والتواصل الثقافي والإنساني وغيرها. كما يبقي الجانبان على الاتصال والتنسيق المكثفين في الشؤون الدولية والإقليمية.

يعد الاجتماع الوزاري المرتقب اجتماعا منتظما على أعلى مستوى في إطار المنتدى منذ إقامة علاقات التعاون الاستراتيجي بين الصين والدول العربية في إطار المنتدى عام 2010. عندئذ، سيجتمع وزراء خارجية الصين والدول العربية والأمين العام للجامعة العربية لبحث الأفكار والإجراءات الكفيلة بتوسيع وتعميق التعاون المشترك بين الصين والدول العربية في كل المجالات، وتحديد أولويات هذا التعاون في العامين المقبلين ووضع البرنامج التنفيذي له بما يحقق تطورا أكبر للعلاقات الصينية العربية، فكلا الجانبين الصيني والعربي يعلق آمالا كبيرة على هذا الاجتماع.

ترجع الصداقة الصينية - العربية إلى زمن بعيد، وهي تزداد قوة ومتانة وازدهارا مع مرور الأيام. ففي التاريخ، كانت الحضارتان الصينية والعربية تتبادلان وتتكاملان، وقدمتا إسهامات كبيرة في التقدم البشري. وعلى مدى العقود الخمسة الماضية، ظلت الصين والدول العربية تقفان جنبا إلى جنب في السراء والضراء في نضالهما من أجل كسب الاستقلال الوطني والدفاع عن السيادة الوطنية وتحقيق النهضة والتحديث، فنشأت صداقة عميقة بين الجانبين. أما في القرن الجديد، فشهدت العلاقات الصينية - العربية تطورا سريعا، خاصة بعد إعلان الجانبين عن إقامة علاقات الشراكة الجديدة وتأسيس «منتدى التعاون الصيني - العربي»، وتستكمل آليات التعاون المختلفة بين الجانبين يوما بعد يوم، وتتوسع مجالات التعاون وتزداد ثماره، مما دفع بقوة الصداقة الصينية - العربية ورفع العلاقات بين الجانبين إلى مستوى جديد.

على الصعيد السياسي، تترسخ الثقة السياسية المتبادلة بين الجانبين، حيث تدعم الصين بقوة جهود الدول العربية الرامية إلى إيجاد الطرق التنموية التي تناسب ظروفها الواقعية، وتعمل على دفع عملية السلام في الشرق الأوسط، وتدعم مساعي الدول العربية للدفاع عن حقوقها الوطنية المشروعة. كما قدمت الدول العربية الدعم الثمين للصين في القضايا التي تتعلق بالمصالح والهموم الرئيسية الصينية.

على الصعيد الاقتصادي، أصبحت الروابط بين الجانبين أوثق من ذي قبل؛ إذ ازداد حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية بوتيرة سريعة وبلغ 195.9 مليار دولار أميركي عام 2011، أي بزيادة 34.7% عن العام السابق له. وأسهم مؤتمر رجال الأعمال، وندوة الاستثمار ومؤتمر التعاون في مجال الطاقة، والآليات الأخرى، في توفير المنصات الجديدة للتعاون العملي بين الجانبين. وإن ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية رغم التحديات الخطيرة الناجمة عن الأزمة المالية الدولية، يدل دلالة واضحة على أن التعاون الاقتصادي بين الجانبين يتمتع بحيوية كبيرة ومستقبل واعد.

على الصعيد الثقافي والإنساني، أقام الجانبان نشاطات متنوعة مثل ندوة «الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية» ومؤتمر «الصداقة الصينية - العربية» وندوة «التعاون الإعلامي» و«مهرجان الفنون الصينية والعربية»، مما مد جسور التفاهم والتواصل بين الشعب الصيني والشعوب العربية، خاصة بين شباب الجانبين. حاليا، يوجد نحو 8000 طالب عربي يدرسون في الصين، ويتم تدريب أكثر من 1000 كادر عربي في مختلف التخصصات سنويا في الصين.

عندما نستعرض مسيرة العلاقات الصينية العربية، نجد أن التطور المستمر للصداقة الصينية -العربية لم يأت من فراغ، بل هو أمر جاء نتيجة لتعامل الجانبين معا بصدق وإخلاص ومشاركة الجانبين في السراء والضراء، ونتيجة للتنمية المشتركة والمنفعة المتبادلة وكذلك بسبب استفادة أبناء شعوب الجانبين من العلاقات الصينية - العربية المتنامية عمقا واتساعا.

يمر عالم اليوم بتطورات وتحولات وتعديلات كبيرة، حيث تشهد موازين القوى الدولية تغيرات عميقة ويقبل نظام الحوكمة الاقتصادية العالمية والمعادلة الاقتصادية العالمية على تغيرات جذرية. سيصبح السلام والتنمية والتعاون عنوانا أبرز في العالم، ومن جانب آخر، تتفاقم ظاهرة عدم التوازن في التنمية والتحديات العالمية مثل أمن الطاقة والأمن الغذائي وتغير المناخ وغيرها.

تمر الأوضاع في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا بتغيرات كبيرة أيضا. نحرص دائما على حفظ السلام والاستقرار في المنطقة وحماية المصالح الأساسية والبعيدة المدى للدول العربية والحفاظ على الصداقة الصينية - العربية باعتبار ذلك منطلقا أساسيا لسياساتنا. ونعمل على حماية استقلال الدول العربية وسيادتها وسلامة أراضيها، ونحترم وندعم حق الدول العربية في معالجة شؤونها الداخلية بإرادتها المستقلة، ونحترم مطالب الشعوب العربية للتغيير والتنمية، ونحترم مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، ونأمل أن تقوم الأطراف المعنية بتسوية الخلافات في ما بينها عبر طرق سلمية. لا تسعى الصين إلى كسب المصالح الأنانية في المنطقة، بل ندعو المجتمع الدولي إلى بذل جهود مشتركة مع دول المنطقة ولعب دور إيجابي من أجل تخفيف حدة التوتر في المنطقة. كما سنواصل، كالمعتاد، دعمنا الحازم للقضايا العربية العادلة.

في ظل الظروف الجديدة، تواجه الصين والدول العربية فرصا تاريخية سانحة لتسريع عجلة التنمية. وفي الوقت نفسه، نواجه مشكلات وتحديات جديدة ومعقدة.. فتتوسع أرضية المصالح المشتركة بين الجانبين وتشتد رغبتهما في تعزيز التعاون. إن مواصلة تعميق التعاون الاستراتيجي بين الصين والدول العربية وتدعيم التنمية المشتركة بينهما أمر ينسجم مع تيار العصر ويتفق مع المصالح الأساسية لشعوب الجانبين، ويخدم أيضا السلام والتنمية في العالم. وإننا على استعداد لجعل الاجتماع الوزاري الخامس لـ«منتدى التعاون الصيني - العربي» نقطة انطلاق جديدة لتعزيز التعاون المشترك مع أصدقائنا العرب بما يخلق مستقبلا أفضل للعلاقات الصينية - العربية.

في هذا السياق، أدعو إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي بين الجانبين.. ففي العقد الثاني من القرن الجديد، علينا أن نعمل على تعميق الثقة الاستراتيجية المتبادلة بين الصين والدول العربية، ونكثف التبادلات رفيعة المستوى والمشاورات الاستراتيجية، ونعزز التفاهم والدعم المتبادل، ونجري التنسيق والتعاون في الشؤون الدولية والإقليمية الكبرى، ونسعى معا إلى مواجهة التحديات العالمية الرئيسية وحماية المصالح المشتركة للدول النامية.

كما أؤكد على ضرورة التوظيف الكامل لإمكانات التعاون الاقتصادي بين الجانبين من أجل فتح آفاق جديدة للتعاون القائم على المنفعة المتبادلة والفوز المشترك؛ فيجب أن نسعى إلى توسيع وتنظيم التبادل التجاري وترقية مستواه وتحسين هيكلة السلع، ونسعى إلى رفع حجم التبادل التجاري إلى 300 مليار دولار أميركي بحلول عام 2014. كما ينبغي أن نوسع التعاون في مجالات الزراعة والصحة والثقافة وفحص الجودة والطاقة، ونعزز التواصل في مجالات حماية البيئة ومكافحة التصحر.

وأدعو إلى بذل جهود حثيثة لتعزيز التواصل والتعاون الثقافي والإنساني لترسيخ الصداقة الصينية - العربية في أعماق قلوب شعوبنا، وينبغي أن نوظف آليات المنتدى المختلفة توظيفا كاملا، ونبذل جهودا إيجابية لتدعيم التواصل والحوار بين الحضارتين الصينية والعربية، ونشجع المنظمات والجمعيات الأهلية في كلا الجانبين على تعزيز التبادل والتعاون وندفع التعاون التعليمي والتكنولوجي بين الجانبين.

كما أدعو إلى تكريس روح الابتكار والإبداع في تطوير المنتدى. يجب أن نفتح العقول من أجل إيجاد سبل جديدة تحسن وتثري آليات المنتدى، ونعمل على استكشاف مجالات أوسع ونقاط مضيئة جديدة للتعاون في ظل الظروف الجديدة، ونسعى إلى مواصلة الارتقاء بالدور الريادي الذي يلعبه المنتدى في تطوير العلاقات الصينية - العربية بما يضيف ديناميكية جديدة لعلاقات التعاون الاستراتيجي بين الصين والدول العربية.

يعتبر تعزيز الصداقة الصينية - العربية من متطلبات العصر ورغبة صادقة للشعب الصيني والشعوب العربية. وكما قال الدكتور نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية في مقالته التي نشرت مؤخرا في صحيفة «الشعب» اليومية الصينية، فإن «مسيرة التعاون الصيني - العربي ستصبح أكثر عمقا وستزداد آفاقها رحابة في ظل وجود الإرادة والرؤية الواضحة لدى الطرفين». وتستعد الصين للعمل مع الدول العربية على متابعة تنفيذ التوافق المهم الذي توصل إليه الرئيس الصيني والقادة العرب، وبذل جهود متضافرة من أجل تدشين عهد جديد لعلاقات الصداقة الصينية - العربية، بما يتماشى مع تيار العصر ومتطلباته ويرفع راية السلام والتنمية والتعاون عاليا.

* وزير الخارجية الصيني