أم الدنيا.. البحث عن الابن البار!

TT

الانتخابات المصرية، وإن كانت شأنا مصريا خالصا، واحدة من أهم التجارب الطازجة لإعادة التفكير والجدل حول مفاهيم «الديمقراطية» وما يتبعها من الدولة المدنية والدينية وسقف الحريات، وسبب أهمية التجربة المصرية أنها الثورة الأكثر تنوعا على مستوى الشرائح الفاعلة في الحقل السياسي، فهناك «الإخوان» بصقورهم وحمائمهم، وهناك التيار القومي واليساري والليبرالي، وشباب الثورة، وصولا إلى الجماعات المستقيلة من العنف المسلح، عدا وجود فئة كبيرة من المجتمع المصري من الطبقة الوسطى غير المسيسة بالمعنى الحزبي، وهم يختلفون مع شباب الثورة، وإن كانوا مرحبين بالثورة كخيار للتغيير السلمي. الشريحة الكبرى هي أبناء القومية المصرية الذين لا يعرفون الكثير من التفاصيل فيما يخص الفروق بين الأحزاب، وغالبهم من الطبقة غير المتعلمة، لكنهم مع الاستقرار وكانوا متحفظين على خيار الثورة والآن موقفهم بشكل تطابقي مع خيار المجلس العسكري، هؤلاء عادة لا تجدهم لا في «تويتر» ولا في شاشات التلفزة ولا البرامج التحليلية، لكنك حتما ستصادف الكثير منهم على الأرض، وفي الواقع.

الأرض إذن التي لا يقف عليها ثوار «تويتر»، والواقع الذي تعالى عليه الإخوان المسلمون فظنوا أن الدعاية السياسية التي نجحوا في إطلاقها ربما تفلح في خطف ما تبقى من مكتسبات سياسية، وهو «كرسي الرئاسة»، وعبر مرشح قليل الإقناع والكاريزما السياسية جاء إلى المنصة عبر قرعة أو استخارة مكتب الإرشاد.

ليس من المهم الآن من سيحصد «الكرسي»، الأهم من وجهة نظري على الأقل لغير المصريين هو قراءة ما حدث في الانتخابات الرئاسية وفق منطق الأرقام ومناطقية المنتخبين وتوجهاتهم الدينية والسياسية، قراءة من هذا النوع ستكشف عن أن الواقع والأرض التي يقف عليها معظم المرشحين، ليست موجودة في الواقع الافتراضي الذي يعترك عليه اللاعبون السياسيون.

بداية لم يكن مفاجئا أن يتراجع حضور الإسلاميين، و«الإخوان» تحديدا، في الانتخابات الرئاسية على الرغم من وصول مرشحهم محمد مرسي إلى جولة الإعادة، فالإسلاميون إجمالا، من «الإخوان» إلى السلفيين إلى المستنيرين، لم يحصدوا إلا ما يقترب من حدود تسعة ملايين صوت، هذا إذا اعتبرنا أن من صوّت لأبي الفتوح كان ينتمي بشكل أو بآخر إلى الخيار الإسلامي.

من جهة أخرى المناهضون لمشروع الدولة الدينية أو المختلفون مع «الإخوان» سياسيا حصدوا بمجموعهم ما يقارب 12 مليون صوت. قراءة الأصوات مناطقيا سواء تلك الجهات التي ساهمت في الثورة بشكل أساسي، القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والجيزة، كانت المفاجأة فيها هو علو كعب المرشح حمدين صباحي، وليس كما كان يعتقد أبو الفتوح الذي روج له شباب الثورة كمرشح توافقي، طبعا أنا أتحدث هنا عن الأرقام بعيدا عن تحليلات الأطراف التآمرية التي نسجت سيناريوهات تقول بعض الحقيقة لتقديم صورة كلية مزيفة، على سبيل المثال هناك من يرى أن السلفيين خذلوا أبو الفتوح بدليل تقدم صباحي في مناطقهم، كما أن الآخرين الذين يغمزون أصوات شفيق اعتمدوا على رواية أصوات القطاعات العسكرية، في حين أن تصويت هذه الفئة هو دستوري تماما.

حمدين صباحي شكّل المعبر عن القومية المصرية في شكلها البسيط «واحد من الناس» كما كان شعار حملته، كان مرشح الثوار غير المؤدلجين والذين ذهبت أصواتهم إلى خالد علي، المثقف وصاحب الحضور الكبير، لكن نخبوية خطابه وأنصاره من شباب الثورة لم تؤهله لأن يحصد أكثر من خمسة وعشرين ألف صوت فقط.

المفارقة أن الإقبال على الانتخابات الرئاسية قل عن سابقتها البرلمانية بما يقترب من حدود خمسة ملايين ناخب، وهو رقم كبير يتحمل تبعاته كل اللاعبين في السياسية المصرية، وعلى رأسهم «الإخوان» الذين تسببوا في توتير المشهد السياسي المصري بذهنية «الشره السياسي» التي أذهلت الأنصار قبل الخصوم.

لا شيء يدعو للتشاؤم، فسيولة الحالة السياسية المصرية كان يجب أن تتوقف ليبدأ التفكير في إصلاح البلد، ووضع حد للمناوشات الصغيرة، لكن عودة من قبيل العسكر و«الإخوان»، أو الفلول والإسلاميين، غير واردة أبدا، فأحمد شفيق يمكن أن يلعب دورا تاريخيا في حال استطاع استقطاب وطمأنة الأقليات والشباب والتيارات المتحفظة على فكر «الإخوان» السياسي، كما أن «الإخوان» سيواجهون استحقاقات سياسية كبيرة الثمن في حال اتكأوا على أصوات الإعادة من خارج أنصارهم، وهو ما سيلقي بظلاله على طبيعة التحالفات في المرحلة المقبلة، كما أن نسبة ربما تكون قليلة ستعلن عن حيادها من خلال استخدام الورقة البيضاء وعدم التصويت.

«الشره السياسي» ساهم في إضعاف شوكة «الإخوان» السياسية، وهو سينهي كل آمالهم في تولي منصب الرئاسة في حال لم يقوموا بحملة واضحة وصريحة في طمأنة المجتمع المصري.

الكثير يقلل من شأن «كرسي الرئاسة» في ظل صلاحيات البرلمان الذي استحوذ عليه الإسلاميون، وهذا أمر ملتبس جدا الآن، صحيح أن النظام المعتمد في مصر نظام رئاسي والخيال السياسي العام للمجتمع المصري يرى في شخص الرئيس ما يقترب من حدود «المخلص»، لكن كل ذلك مرهون بكتابة الدستور الجديد للبلاد، الذي سيتأخر عن استحقاق «كرسي الرئاسة»، وهنا كان مكر «الإخوان» السياسي في المطالبة بالتحول إلى نظام برلماني في سعيهم إلى الحد من امتيازات الرئيس وسلطته، وهي محاولات في ظني ستقف أمام سد الجيش المنيع الذي لا أشك في أنه سيتدخل في صياغة ومراجعة الدستور، لكن طبيعة هذه المشاركة وحجمها وطريقة تلقي الشارع لها هي ما سيجعل المستقبل يقف على قارعة الاحتمالات، في حين أن أم الدنيا كانت تستحق أبناء بررة لا يطيلون عذاباتها.

[email protected]