تعالوا.. إلى «التعددية الأرحب» المتسعة للمفاهيم المختلفة

TT

لماذا يتوجب أن يكون لدى المسلمين (بصفتهم) «مفهومهم» المستقل للحرية؟

إن المقتضيات لذلك لا تكاد تنتهي.. ومنها:

أ) أننا في هذا العصر - بوجه خاص - نعيش في حقبة «استخدام القوة الناعمة».. ومن أبرز مضامين هذه القوة «الاحتلال بالمفاهيم كبديل للاحتلال العسكري والإداري المباشر».. فهذا النوع من الاحتلال أقل تكلفة، وأعلى جدوى، وأطول عمرا.. مثال ذلك أن الغربيين يخططون (ربما بحسن نية)!! لأن يكون مفهوم المسلمين لدينهم كمفهومهم هم لدينهم، إذ يصعب عليهم - دبلوماسيا - أن يطالبوا المسلمين بالهجران التام للإسلام، ولكنهم يكتفون بأن يفهم المسلمون إسلامهم على أنه مجرد تعبد شخصي مفصول عن المفهوم الواسع والحي للحياة في صور حراكها المختلفة.

ب) المقتضى الثاني: التضاد العميق والواضح بين المفهومين الإسلامي والغربي للحرية (ولقد تكفل مقال الأسبوع الماضي بتحرير هذا التناقض). فإذا لم يكن لدى المسلمين مفهومهم الذاتي للحرية، اضطروا للأخذ بالمفهوم الغربي وبذلك يقعون فيما لا يريدون ولا يرضون، إذ يتعين عليهم أن يتكيفوا مع المفهوم الغربي للحرية، والتسليم بتداعياته جميعا.. ومن أفدحها وأوخمها: الإعراض عن عبودية الله، وإسلام الوجه له عز وجل والتحرر (من ثم) من كل الآلهة والتصورات الأخرى التي تتناقض معها.. وهذا التكيف أمر لا بد منه وفق المنطق المعرفي المنهجي.. يقول ديفيد هارفي في كتابه «الليبرالية الجديدة»: «إن الحرية جزء من نظام مفهوماتي متكامل متماسك».. فلكي لا ينسلخ المسلمون من إسلامهم، لزم أن يكون لديهم مفهومهم المستقل للحرية، المتكامل مع قيم الإسلام الأخرى.

ج) المقتضى الثالث: أن للإسلام هدى في كل شيء، خاصة فيما يتعلق بـ«السلوك الإنساني».. وهذا المفهوم نفسه يتضاد مع المفهوم الغربي للدين.

د) المقتضى الثالث: أن العقيدة اليقينية عند المسلمين هي أن الإنسان خلق لعبادة الله وحده لا شريك له. وبهذه العبادة يكون حرا مما سوى الله.. وبهذه الحرية (أيضا) تتحقق سعادته الحقيقية؛ فردا ومجموعا.

هـ) المقتضى الرابع: أن لله الحق المطلق في التشريع للإنسان.. نعم. يمكن للمجالس النيابية والشورية أن تجتهد في سن قوانين وأنظمة تفصيلية. فهذا أمر مأذون به لمواجهة القضايا الجديدة في العصور كافة، بيد أن ذلك مشروط بالصدور المبدئي عن المرجعية العليا، وهي شريعة الإسلام. وها هنا حكمة منهجية عقلية؛ مقنعة وممتعة. فالتشريع الإلهي للإنسان (سواء كان مجملا أو مفصلا) متكامل متناغم مع عقيدة التوحيد الخالص. ولذا جاء الرابط المنهجي العقدي بين الإيمان بالله والتشريع من الله: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما». فالإيمان منفي (بقَسَم من الله) عمن لا يسلمون بالتشريع الإلهي تسليما، ودون حرج.

و) المقتضى الخامس: من حرية الفطرة الإنسانية أن الإنسان يولد وهو محرر (بإطلاق) من خطايا الآباء والجدود؛ الأعلين منهم والأدنين، يولد وهو لا يحمل (البتة) وزر أحد في سلسلة نسبه؛ من آدم إلى أبيه المباشر.. وهذه قاعدة عدلية انتظمتها رسالات الأنبياء كافة: «أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى».. وقد جاءت الرسالة الخاتمة فرسخت هذا المفهوم في غير موضع من القرآن. مما لا ريب فيه أن أبانا آدم (عليه السلام) قد أخطأ، لكنه تاب فتاب الله عليه.. وهذه التوبة مفتوحة لكل ذريته، يتحررون بها من أثقال خطاياهم وأغلالها (خطاياهم الذاتية لا الموروثة)، وها هنا يتبدى تناقض كبير جدا بين المسلمين والغربيين في مفهومي الحرية والبراءة الأصلية عند كل إنسان.

ز) المقتضى السادس: بحرية الفكرة وحرية التوحيد يقيم الإنسان المؤمن علاقة حرة مباشرة مع الله. علاقة حرة طليقة من قيود الكهنوت، والوساطة بين العبد وربه، وهذه العلاقة هي أسمى وأحلى وأمتع ما في الدين.. وللحفاظ على سموها وطهرها وحلاوتها نقض الإسلام ما ينقاضها ويتلفها من الكهانات والوساطات والحجب المختلفة التي تحول بين الإنسان وربه.

ح) المقتضى السابع: توفير «الوحدة النفسية» للإنسان، وصيانتها من جحيم التمزق. فما دام الإنسان مسلما، فإن هذه الصفة تتطلب إسلام وجهه لله بقناعة وحب ورضا. وما يتناغم معه (في هذه الحال) هو المفهوم الإسلامي للحرية. أما إذا استعار مفهوما آخر للحرية (المفهوم الغربي بالذات)، فإنه يدخل في صراع دائم بين إسلامه والمفهوم المضاد له (الذي ينفي أن تكون العبودية لله منبعا لحرية الإنسان الحقة). وحين يتورط في هذا الصراع يتمزق ويتنكّد ويشقى من حيث إن الشقوة الداخلية، هي أعتى الأمراض النفسية.

ولذا كان من ثمرات توحيد العبودية لله الظفر بالوحدة النفسية والسكينة القلبية، والتناغم الوجداني والشعوري.. فمن مفاهيم «الشرك» أن يتشاكس في الإنسان الواحد شركاء كثيرون؛ كلّ يأمره وينهاه، فيتمزق بينهم نفسيا وفكريا وسلوكيا: «ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا». كلا، لا يستويان. فالإنسان الذي أسلم وجهه لله وحده لا شريك له، امرؤ يتمتع بـ«الوحدة النفسية» من حيث إنه يعبد إلها واحدا لا شريك له.. أما الذي تتناوشه عدة آلهة. فهو في جحيم مقيم من تفرقة الذات وتمزقها وحيرتها النكدة بين آلهة متعددة.

ط) المقتضى الثامن: أن الإنسان الذي أسلم وجهه لله يحب أن يتلقى من ربه دوما ما يصلح حياته ويسعدها على التفصيل والإجمال. فأصل العلاقة بين المسلم وربه «الحب»: «والذين آمنوا أشد حبا لله».

وإذا كانت الخنساء حين برّح بها الشوق إلى أخيها صخر قالت:

يذكرني طلوع الشمس صخرا

وأذكره بكل مغيب شمس

فإن المسلم يبوح بحبه لربه فيقول:

يذكرني طلوع الشمس «ربي»

وأذكره بكل مغيب شمس

ومن مفاهيم الذكر الموصول لله: الاستجابة لأمره، بهمة وحب ومداومة، ولما كان هدي الله وأمره يسري في حياة الإنسان كلها، فإن الإنسان المحب لربه يستجيب لهدي الله في نيته وقصده وقوله وفعله وسلوكه وسائر تفاصيل حياته.. بل نلحظ أن التدخل الإلهي الرحيم اللطيف في حياة الإنسان كان مدخلا وحافزا لنخبة مفكرة أسلمت لهذا السبب.. مثلا يقول م.ج. لوبلا في كتابه «ربحت محمدا ولم أخسر المسيح»: «قرأت منذ زمن طويل عبارة إنجيلية هي (صلِّ دون توقف).. وأخذت أسأل: كيف يمكن أن أفعل ذلك في حياتي كلها؟ وعندما بدأت أتعرف على الإسلام، وأتعلم أكثر عن طريقة الحياة في الإسلام، اكتشفت أن هذا الدين قدم إرشادا مقدسا من الله، سبحانه وتعالى، ومن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم.. ومن خلال هذه الهداية يستطيع الإنسان أن يصلي (أن يكون في حالة عبادة دون توقف) إذا كانت تلك مشيئة الله عز وجل.. سواء كان المرء يستيقظ أو يأكل أو ينام أو يرتدي ثيابه أو يذهب إلى السوق، أو يدخل الحمام، أو ينظر في المرآة، أو يسافر أو يزور مريضا، أو يحبس في اجتماع، أو يستحم، أو حتى يجامع زوجته، أو يتثاءب. أو يقض أظافره أو يعطس أو يحيِّي الناس أو يتكلم أو يستضيف أناسا في بيته أو يمشي أو يتشاجر، أو يدخل بيته أو يصلي. فإن الإسلام وهدى القرآن وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) قدمت الطرق التي أستطيع بها أن أطبق وصية (صلّ دون توقف)».

من هنا، فإن التوجيه الإلهي لشؤون الحياة اليومية للإنسان هو مطلب المؤمنين الصادقين الذين يحبون أن يعبدوا الله عبادة شاملة، بمحض إرادتهم الحرة، وعمق محبتهم لربهم، ومسارعتهم إلى رضوانه.. ويتمثل حب التلقي المفصل عن الله - أوضح ما يتمثل - في صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد كانوا يسألونه كثيرا عما يرضي إلههم المحبوب من أعمال ابتغاء مباشرتها: «يسألونك ماذا ينفقون»، «ويسألونك عن اليتامى».. «يسألونك ماذا أحل لهم».. إلخ.

وننعطف بالسياق عطفة كبرى، فنقول للذين يرتاعون من التوكيد على الاختلاف أو التناقض بين هذه المنظومة الحيوية من المفاهيم الإسلامية والغربية، نقول لهم كلمة وهي: إن هذا الاختلاف الشديد له «سند منهجي عالمي أو كوني»، يندرج فيما يمكن أن نسميه «التعددية الكونية الأوسع». فالله تعالى لم يرد أن يكون الناس أمة واحدة متطابقين في كل شيء. وإنما شاء (سبحانه) أن يجعل الناس متعددي الألسنة والألوان والأعراق.. وتناغما مع هذه التعددية الرحبة شاء جل ثناؤه أن يجعل مناهج البشر وشرائعهم متعددة: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا».

ومن هنا، فإن الذين يضيقون بأن يكون للمسلمين مفاهيمهم المنبثقة من منهاجهم وشريعتهم. إنما يضيقون بالتعددية الكونية العظمى الأفسح، وإن زعموا أنهم دعاة التعددية الضيقة (التعدد الحزبي) في بلد ما. بل نقول: إن هؤلاء يريدون أن يخضع العالم كله لمفهوم واحد طاغ وثقافة واحدة مستبدة. وهذه هي الديكتاتورية الحضارية التي ينبغي أن يناهضها أحرار العالم وعقلاؤه؛ حفاظا على سعة التعددية الكونية، وتحررا من ديكتاتورية الحضارة الواحدة التي تدعي «احتكار الصواب».