على رصيف محطة قطار الثورة

TT

قلنا من قبل، ونقول من بعد، إنه في الدول السلطوية، وفي القمعية منها على وجه التحديد، تحدث الثورات عندما يتوافر شرطان، الأول هو أن تخف قبضة السلطة على رقاب العباد، والثاني هو أن يواكب ذلك تحسن في ظروف المعيشة لقطاع عريض من الناس، يغذي احتياجا حقيقيا لديهم ويفتح شهيتهم للحصول على المزيد من حقوقهم الإنسانية.

هذا هو ما قاله إريك هوفر منذ سبعين عاما، وأتصور أنه لو كان على قيد الحياة لقال ما قاله المؤرخ الأميركي ول ديورانت من قبل، وهو أن آليات التفكير عند البشر وأساليبهم في العمل تتغير عند ظهور اختراع جديد. أما ما نقوله نحن فهو أن كل اختراع جديد في حياة البشر يقربهم أكثر وأكثر من الحرية والكبرياء الإنسانية والخير الأسمى حتى لو بدا الأمر في البداية غير ذلك.

إن المخترعات الحديثة في مجال اتصال البشر ببعضهم البعض، ومنها الشبكة العنكبوتية بالإضافة لكل ما يفقسه كل يوم جهاز الكومبيوتر من وسائل مذهلة للاتصال بالآخرين، كل ذلك كان له الأثر الأكبر أو لعله كان المؤثر الأول في ثورة يناير في مصر. لقد كان من السهل على هذا الجيل أن يتعرف في جزء من الثانية على ما يحدث في أرجاء المعمورة، وأن يحصّلوا من العلم نفس ما يحصل عليه أقرانهم في دول العالم المتقدم، مما يدفعهم إلى طلب نفس الأنصبة من الحرية والعدل والكبرياء الإنسانية ونفس الدرجة من مستوى المعيشة المرتفع.

أخرج من ذلك إلى أن الثورة في مصر لم تكن ثورة تعساء؛ فالتعساء لا يصنعون الثورات، التعساء يموتون فقط ببطء من فرط التعاسة وما تجلبه من أمراض، الثورات يقوم بها فقط من يحصل على نصيب في الدنيا ويرى أن من حقه الحصول على نصيب أكبر. التعساء لا يصلون إلى محطة الثورة إلا بعد قيام قاطرته بلحظات.

قف معي قليلا على رصيف المحطة، بالإضافة إلى المسافرين والقادمين من السفر، هناك الثوار الشبان، وهناك الحمالون، وعمال البوفيه وعدد من النشالين وبعض المتسكعين الحالمين بالسفر إلى لا مكان، وهناك أيضا من يراقب ما يحدث عن كثب ليخرج منه بكسب كبير، ليسوا ثوارا ولم يكونوا غير أنهم جميعا يتميزون بالقدرة على العدو السريع ثم القفز على قاطرة الثورة بعد أن تحركت بالفعل، ثم بدأوا يصيحون بحناجرهم القوية: الثورة.. الثورة.. إحنا الثورة.. وسّع للثورة.. اوعى حد ييجي جنب الثورة.

سعد شباب الثورة في البداية بهذا التأييد القادم من أصحاب الأجسام والحناجر القوية، وبعد لحظات وبفعل الزحام، ذابوا بين الركاب في عربات القطار كما تلاشت همساتهم الثورية وسط ضجيج هتافات المؤيدين، ومنها هتاف واحد قوي للغاية: نحن الثورة والثورة نحن.. نحن المبتدأ والخبر.. من يريد أن يتكلم مع الثورة عليه أن يتكلم معنا نحن.

ويسأل شاب بصوت هامس: وماذا عن رجال القوات المسلحة الذين قاموا بحماية الثورة والثوار؟

فيرد أصحاب الحناجر القوية: ماذا؟ يمشوا.. يتفضلوا يمشوا ويسيبوا لنا البلد.. لسنا في حاجة إلى الحكم العسكري..(ثم ألفاظ أخرى لن تسمح لي هذه الجريدة بنشرها).

تعال بنا ننزل من عالم الفن والمجاز لنقف على رصيف العالم الحقيقي، لم تحدث الثورة منذ ألف عام حتى تتوه تفاصيلها، كلنا ما زال يذكر بوضوح أحداثها، مظاهرات وحشود وحريق في مبنى الحزب الوطني الحاكم ثم انهيار كامل للأمن المصري الأمر الذي أدى إلى نزول رجال القوات المسلحة إلى الشارع. لا نعرف حتى الآن ما دار بين القيادات العسكرية المصرية من مداولات أدت إلى اتخاذ القرار بتنحي الرئيس وعدم التصدي لتلك الحشود بما يمكن أن تنتج عنه من مذبحة أو مذابح. وعندما نقول إن القوات المسلحة، بعزلها الرئيس مبارك (السماح أو الموافقة، أو حتى وضع عناصر الأمر الواقع أمامه بوضوح في انتظار قراره)، تكون قد اتخذت قرارا بتحمل مسؤوليتها عن حماية هذه الثورة لمنعها من أن تتحول إلى سلسلة مذابح وهو ما يحدث في سوريا الآن.

بغير هذا القرار كان من المستحيل وجود الثورة المصرية، بغير هذا القرار كان المتوقع سقوط الآلاف من الجثث والأجساد النازفة حتى الموت، بغير هذا القرار كان من المستحيل وجود مبارك وصحبه وأهله في السجون يحاكمون بتهم شتى، منهم من حكم عليه (مبارك والعادلي بالسجن المؤبد) ومنهم من ينتظر.

هناك حدود لقلة الحياء وانعدام التهذيب، إنه لأمر صعب للغاية أن يتحمل أصحاب الفضل في فعل ترتب عليه إنقاذ عشرات ألوف البشر من القتل، إنكار البعض لهذا الفعل. ويا لعبقرية اللغة العربية عندما استخدمت كلمة (الجميل) بديلا عن كلمتين متباعدتين في الإنجليزية، الجمال (beauty) والجميل (favor) يا لكمية القبح التي ينوء بحملها إنكار الجميل.

ستترك العسكرية المصرية الساحة السياسية، غير أنها لن تترك المصريين، لن تتخلى عن مسؤوليتها في حمايتهم من المغامرين السياسيين ومن عديمي الحياء منعدمي التهذيب، أنا على يقين من ذلك. واستخدام كلمة (عسكر) هو بالفعل دلالة على قبح التفكير، هؤلاء الناس لم يصلوا إلى الحكم عبر تنظيم غير شرعي داخل القوات المسلحة، لم يخرجوا أصلا من ثكناتهم بالمدرعات للاستيلاء على الحكم وتوزيع مغانمه على أنفسهم، هم ليسوا أصحاب انقلاب خرجوا به على الناس فجرا وهم نيام، بل هم أصحاب إحساس قوى بالمسؤولية، مسؤولية الدفاع عن المصريين. هذا هو عملهم وهذه هي وظيفتهم.. ترى.. هل فعلوا شيئا غير ذلك؟

إن نتائج الجولة الأولى في انتخابات الرئاسة تدل دلالة قاطعة على أن النخبة السياسية والإعلامية في مصر تقيم وتتحرك على جزيرة منعزلة بعيدة عما يفكر فيه الشعب المصري، كل الاستقصاءات السابقة اتضح أنها خاطئة ولا تعبر إلا عما تفكر فيه هذه النخبة. وبعد أيام تحرم هذه النخبة من أعظم مصادر البهجة الثورية، وهي الاحتجاجات وتقديم الطلبات المستحيلة والممكنة، الشرعية منها وغير الشرعية. إن الهدوء في الشارع في مصر أمر ضروري لدوران عجلة الحياة والإنتاج. لا داعي في غمرة الحماس والبحث عن البهجة الثورية للوقوع في دائرة العداء للشعب المصري تطبيقا للقاعدة السلوكية التي يعرفها الجميع وهو أن الشيء عندما يزيد عن حدّه ينقلب إلى ضده. الثوار من أصحاب المبادئ والرسالات مطالبون بقدر من التواضع يمكنهم من رؤية ما يحدث للمصريين، فبغير التواضع تعجز الناس عن رؤية الحقيقة.

التواضع وحده يدفعنا لاكتشاف أن الناس تنتخب شخصا ما للرئاسة ليس لتاريخه ولا لما يقدمه من وعود أو برامج، بل لأنها ترى فيه رئيسا. هذه هي الحكاية باختصار. أما حكاية الأصوات وتحويلها إلى حسابات وأرصدة، فهي أيضا خطأ ناتج عن انعدام التواضع، لا تستطيع جمع ما حصل عليه فلان وعلان وتحويله إلى رصيد دائم يمكن الاعتماد عليه في جولات قادمة، هذه الأصوات أشبه بخطوط الطول والعرض، لا وجود فعليا لها على الأرض، بل هي متوهمة، الأصوات التي حصلت عليها أنت وزميلك في نفس الاتجاه السياسي، ربما يحدث مرة واحدة فقط.. تنتمي إلى الماضي وليس إلى الحاضر أو المستقبل..