منطق الديمقراطية ومنطق ساحة التحرير

TT

على ضوء ما جرى بعد صدور حكم القضاء المصري في قضية الرئيس السابق مبارك ونجليه وأعوانه، من مواقف وتصريحات وردود فعل ومظاهرات، يتساءل كثيرون: من سيحكم مصر بعد انتخابات الرئاسة القادمة بعد أيام؟ هل هم «الإخوان المسلمون» لوحدهم أم مع القوى السياسية المدنية الأخرى؟ وهل سينسحب العسكر كليا من ساحة القرار السياسي؟ وأي دستور سوف ينظم أمور الحكم في مصر؟ وكيف سيكون هذا الحكم: رئاسيا أم مجلسيا أم «ميدانيا» (نسبة لميدان التحرير)؟ وما هو دور العسكر والأحزاب والمؤسسات فيه؟

من الواضح أن «الإخوان» والإسلاميين عموما سوف يواصلون حملتهم في الشارع والإعلام ليكسبوا معركة الرئاسة، وأن القوى السياسية المدنية والعلمانية لن تقترع كلها للمرشح العسكري سابقا خشية انبعاث الحكم السابق بشكل أو بآخر. فالحكم القضائي لم يخدم شفيق، وحتى لو جاءت نتائج الانتخابات في مصلحته، فهل سيتمكن من تسلم الحكم وممارسته إذا عادت الجماهير تحتل ساحة التحرير هاتفة بسقوطه؟

لقد اختلط الحابل بالنابل، في المشهد السياسي المصري؛ إعلان دستوري يطبق هنا ولا يطبق هناك.. قضاء تحترم أحكامه في بعض القضايا وترفض في قضايا أخرى، انتخابات نيابية يتفق على إجرائها واحترام نتائجها المجلس العسكري و«الإخوان»، ثم يختلفان على ممارسة حق مجلس الشعب المنبثق عنها في التشريع، وانتخابات رئاسية قبل وضع دستور يحدد دوره وصلاحياته، محاكمة رئيس دولة أمام محكمة جنايات عادية كأي «مجرم عادي»، وعند صدور حكم جنائي وفقا لأصول المحاكمات الجنائية العادية، رفض القبول به، والمطالبة بمحاكمة استثنائية يشفي حكمها غليل الجماهير بالانتقام وليس تطبيق أصول المحاكمة السياسية أو الجنائية.

إن الاستقرار السياسي، بل والشعبي، لن تنعم به مصر بعد الانتخابات الرئاسية الآتية، لسوء الحظ، وأيا كان الفائز فيها. لقد اقترح البعض أن ينسحب شفيق ليتم التنافس بين مرسي وصباحي، وبالتالي يفوز هذا الأخير بأكثرية الأصوات التي لم ينلها مرشح «الإخوان»، ورأى البعض أن شفيق حتى لو فاز بأكثرية الأصوات لن يتمكن من الحكم، وبالتالي سوف تجري انتخابات رئاسية جديدة تأتي بصباحي رئيسا، ربما، ولكن هل سيكون التعاون بين أي رئيس غير إسلامي وأكثرية المجلس النيابي الإسلامية، سهلا أو ممكنا؟

السؤال الحقيقي المطروح اليوم، وسيبقى مطروحا غدا وبعد غد، هو: هل ستتمكن القوى والتيارات السياسية المتواجدة اليوم، والمرشحة للتكون، من التلاقي والتعاون والائتلاف لحكم مصر في السنوات القادمة؟ أم أنها سوف تستمر في تنازعها على السلطة جاعلة من الحكم عملية مستحيلة؟

في الواقع لم يقترع الملايين لشفيق لأنه عسكري أو رئيس وزراء سابق أو رمز للنظام السابق، بل اقترعوا للاستقرار والأمن وضد حكم «الإخوان» والإسلاميين، كذلك الملايين الذين اقترعوا للمرشحين الثلاثة أو الأربعة الآخرين، وبالتالي فإن الإسلاميين، من «إخوان» وسلفيين، لا يمثلون واقعيا سوى ربع الناخبين، وعليهم أن لا يسقطوا ثلاثة أرباع الشعب المصري الذين اقترعوا للمرشحين الآخرين من حساباتهم. قد يرد البعض أن تلك هي أصول اللعبة الديمقراطية، أي أن فوز المرشح أو الحزب بصوت واحد في الانتخابات يمنحه حق الحكم، حتى ولو لم يكن مجموع أصوات ناخبيه لا يتعدى الـ20%. ومن هنا كانت الدورة الثانية في الانتخابات. صحيح، ولكن تطبيق اللعبة الديمقراطية إما أن يكون محترما من الرابح والخاسر، وإما لا يكون، لا أن نقبل به عندما نربح ونرفضه عندما نخسر.

ثم إن الديمقراطية لا تقتصر على انتخابات رئاسية ونيابية بل هي نظام حكم متكامل أهم قواعده الفصل بين السلطات وتنظيم تعاونها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت هناك مؤسسات للحكم وللإدارة، وإلا إذا احترمت هذه المؤسسات وقامت بدورها كما يجب، ومن أهم مقومات الديمقراطية وحسن تطبيقها كنظام للحكم هو اقتناع الشعب بحسناتها واحترامه لقواعدها وأحكامها، وما حدث في مصر في الأيام الأخيرة، وما قد يحدث بعد انتخابات الرئاسة لا يدل على ذلك، بل على عكسه، وهذا أمر مقلق لا للمصريين فحسب بل لكل العالم العربي الذي يرنو إلى مصر كقلب للعالم العربي ورائده.

لقد أيد العالم بأسره ما سمي بالربيع العربي والانتفاضات الشعبية ضد أنظمة حكم سلطوية لا تحترم حقوق الإنسان وكرامته وحريته، ولم يكن أحد ينتظر بعد سقوط هذه الأنظمة أن تقوم محلها فورا أنظمة ديمقراطية توفر الاستقرار السياسي والرفاهية للشعب، بل يمكن القول بأن الثورات العربية، عموما، كانت أقل دموية من الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية أو الصينية أو الكمبودية، ولكن ما جرى في مصر وما زال مستمرا يتميز عن كل الثورات بأنه يخلط بين منطق الثورة ومنطق الديمقراطية، بين حكم الدستور والمؤسسات وتحكم الشارع والجماهير، بين سلطان القانون والمؤسسات وسلطة الشارع، وهذا كله بسبب الفراغ الذي أحدثه نظام حكم عمره 60 عاما - والبعض يقول 40 قرنا - وتنازع الطامحين إلى الحلول محله، وعدم توفر الاستعداد على مستوى الشعب والقيادات لممارسة الديمقراطية.