الثورة والصناديق!

TT

نظريا ذهب في اعتقادنا أن الشرعية الانتخابية التي تستمد من صناديق الاقتراع، هي الطموح الأكبر للبلدان العربية التي شهدت ثورات أطاحت بالأنظمة التي كانت تحكمها. ذلك أن الانخراط في نهج ديمقراطي والاحتكام إلى الانتخابات آلية رئيسة في المنظومة الديمقراطية يفرض آليا القبول بنتائج صناديق الاقتراع مهما كانت. فالانتخابات خيار أساسي ضروري وتمثل في حد ذاتها امتحانا صعبا لمدى استعدادنا للدخول الفعلي في الديمقراطية لأنها لعبة ذات شروط لا ينفع معها الانخراط فيها دون الالتزام بقوانينها.

غير أن واقع الحال في تونس أول بلدان الثورات، وبدرجة أكبر في مصر التي تلتها بعد أسابيع قليلة، لا يولي الاحترام اللازم لنتائج الانتخابات التي أُقيمت في مرحلة ما بعد الثورتين. فأصبح الجدل الدائر بين النخب اليوم في هذين البلدين يتمركز بالأساس حول أيهما أقوى وأكثر أهمية: شرعية الثورة أم شرعية الانتخابات؟

وأول ملاحظة عامّة يجدر التلويح بها في ظل مثل هذا الجدل الخطير أن القبول بهذه الثنائية لن يحسم الحاضر ولا المستقبل، ذلك أن الطرف الخاسر في الانتخابات سيظل دائما محتميا ورافعا شعار الشرعية الثورية وهو سلوك سياسي سيقضي على محاولات أي انخراط جدي وحقيقي في المسار الديمقراطي لأن مثل هذا الانخراط الحلم والضرورة في الوقت نفسه يشترط قبول كل الأطراف المشاركة في العملية الانتخابية بنتائج صناديق الاقتراع سواء أكانت لصالحه أم ضده.

وفي الحقيقة العودة إلى التمسك بخطاب الشرعية الثورية بعد خوض الانتخابات بالنسبة إلى الأطراف الخاسرة هو بمنزلة الانقلاب على الديمقراطية ذاتها، بل إن في ذلك تشكيكا ومحاولة لتحويل وجهة الأغلبية التي صوتت للخصم السياسي. ما يغيب عن ذهن هواة السياسة وحتى بعض محترفيها فكرة أن الديمقراطية هي حكم أغلبية الشعب الذي هو أيضا خليط من عقليات وأفكار ومصالح وحسابات وأوهام مما يجعل من الديمقراطية عملية محفوفة بالمفاجآت والمفاجعات أيضا، ولكن رغم ذلك قد أثبتت نجاعتها كمنظومة قيم وآليات لتنظيم المجتمعات وتقنين المجال السياسي وتحصينه من الديكتاتورية واستحواذ نخبة سياسية معينة على الحكم دون سواها.

إن أول دروس الديمقراطية التحلي بروح سياسية عالية وتهنئة الفائز في الانتخابات بكل شجاعة لأن في ذلك تجسيدا لجوهر الديمقراطية وتلبية لشروطها، وهو أمر في غاية الدقة لأنك في اللحظة الذي تقبل فيه أنت بقوانين اللعبة الديمقراطية فإنك تضمن لنفسك من سيقبل بها في صورة فوزك في المستقبل حيث لا أبدية في الحكم، ورأينا مؤخرا في الانتخابات الفرنسية كيف نجح الاشتراكيون في العودة إلى الإليزيه بعد 17 عاما أي إنه عندما نضمن تأسيس القواعد اللازمة للديمقراطية يصبح المجال السياسي شاسعا وآفاقه رحبة وممارسة الحكم والخروج منه تحددهما صناديق الاقتراع.

إن هذا التأرجح بين الاحتماء بالشرعية الانتخابية أو الشرعية الثورية طبقا لنتائج الانتخابات ولمسألة الفوز أو الفشل أمام صناديق الاقتراع وضع يعكس حرفيا وبدقة شديدة حالة التذبذب والتردد في العقليات والممارسات. كما أنه تأرجح لا يخلو من مراهقة سياسية ومكر سيكون ضحيته الشعب، إذ دائما سيكون هناك خاسر ومن ثمة سيقوم الخاسر من خلال رفع شعار الشرعية الثورية بمعاقبة الأغلبية التي لم تختره.

إننا في حاجة إلى التفكير بأكثر وطنية وبأقل مكر ممكن وساعتها سندرك أن الانتخابات أول استحقاقات الثورة وأن عظمة أي ثورة تكمن في أنها لحظة تاريخية نادرة حاملة لزمن ثقافي وسياسي جديد يجسدهما مشروع قيمي وسلوكي ونظام مغاير من العلاقات والأفعال ومن ثم فإن الاعتراف بالشرعية الانتخابية هو اعتراف بالشرعية الثورية التي لا بد من أن تُترجم وتتخذ أشكالا جديدة من أهمها إعادة بناء الدولة ومؤسساتها والشعب دون أن ننسى أن الانتخابات كأهم عناوين الديمقراطية وآلياتها من استحقاقات الثورة وأن الثورة هي ذلك الحدث التاريخي الاستثنائي الذي سمح بفرض الديمقراطية حقا لا تفريط فيه.

[email protected]