منجزات الحل الأمني مرة أخرى!

TT

سبق لي أن تناولت هذا الموضوع في مقالة سابقة. لكنه يبدو من المحال كتابة مقالة واحدة تستطيع تغطية الحل الأمني المطبق ضد الشعب السوري من كل وجوهه. وفي ظني أن تفاقم الأوضاع الكارثية الناجمة عن هذا الحل سيجعل من الضروري العودة إليه بصورة متكررة، لتغطية ما كان خافيا أو غير واضح منه بعد، خاصة أنه دخل مع مجزرة الحولة في طور نوعي جديد أدى إلى إضافة مخاطر جديدة بالنسبة إلى المجتمع السوري، كان أي واحد من مواطنينا سينتفض كالملسوع لو أن أحدا سأله قبل نيف وعام إن كانت سوريا ستشهد ما يماثلها ولو من بعيد جدا، وسيستنكر السؤال جملة وتفصيلا، وسيتحدث بثقة عن أنه لا يوجد بين السوريين من يمكن أن يبلغ هذا الحد من الوحشية، وأن معظم مواطني الشام معروفون بهدوء الطباع وسلاسة التعامل وعلو الثقافة والتمدن، والانفتاح على الغريب، فضلا عن كرم الضيافة وطلاوة الحديث والاعتدال.

إلى هذا، كثيرا ما كنا نسمع في الماضي أحاديث تفرق بين نظامي العراق وسوريا، وتصف الأول بالشراسة والهمجية والعنف وتنسب للثاني الحنكة والدهاء السياسي والقدرة على التعامل بهدوء وروية مع الأزمات. باختصار، كانت صفات الشعب السوري تنسب لقيادة «البعث». وعندما كنا نعترض على ما نسمع، كان محاورونا غالبا ما ينصرفون عن كلامنا وحججنا مشفقين علينا، رغم أننا كنا نتحدث مثلا عن حماه وما وقع فيها من عنف لم يشهد العراق مثيلا له، ونؤكد أننا لا ندافع عن صدام بل نريد أن نؤكد ببساطة أن الحكم في البلدين من منابت آيديولوجية ومجتمعية متشابهة، ومن طينة واحدة تأخذ بسياسات وخيارات متماثلة، فلا مجال للمفاضلة بينهما. نحمد الله أن الثورة السورية تبين الآن للعالم في أي حال نعيش، وتثبت أننا كنا نصف جزءا من واقعنا، وأن ما خفي من علاقات حكامنا معنا أعظم من أي وصف، مهما كان مبالغا فيه. اليوم، لا أظن أن أحدا يجد في نفسه الجرأة على الدفاع عن النظام السوري، مهما كانت معاييره السياسية والأخلاقية متسامحة أو فاسدة.

في الأشهر الأخيرة، التي شهدت هجوم النظام الحاسم ضد الشعب، دخل الحل الأمني في طور إفلاس شامل وصريح، حتى إنه ربما يكون من الصعب اليوم تبنيه والدفاع عنه، بالنسبة إلى كثير من رجال السلطة، إن هم خلوا إلى ما تبقى لديهم من ضمير وعقل، وألقوا نظرة صاحية على أحوالهم، وشعروا بشيء من الخوف على أنفسهم وأطفالهم، ووقفوا أمام ما وصل العنف إليه من فتك بجميع السوريين، خاصة الأطفال منهم، الذين لا ذنب لهم في أي شيء تشهده بلادهم، هذا إن كان هناك ذنب ما لأحد ما من أهلهم أو أقاربهم!

لا أعرف إن كان فشل الحل الأمني كسياسة وحيدة اعتمدها النظام ضد الحراك الشعبي في سبيل الحرية والعدالة والكرامة، ليس واضحا الآن إلى الحد الذي يجعله جليا وصريحا وليس بحاجة إلى معرفة بأصول الحرب والسياسة. لو أنك سألت رجل أمن قبل يوم 15 مارس (آذار) 2011 عن احتمال وجود منظمات مسلحة في البلاد، لرماك بالغباء والجهل، ولاستنكر السؤال وأخبرك بأن كل من على الأرض السورية من منظمات مخترق، أو من صنع النظام، أو يعمل في خدمته، أو يدار عن قرب أو بعد من قبله. عندما كنا نخرج من السجون كان قادة الأمن الذين يستقبلوننا كي يقوضوا معنوياتنا يقولون لنا: «لا تتعبوا أنفسكم، فنحن اليوم في السلطة وسنبقى فيها إلى الأبد، ولا يوجد في هذه البلاد من يستطيع هز الأمن بأي صورة من الصور. اذهبوا إلى بيوتكم واقفلوا أفواهكم وانتظروا ملاك الموت وأنتم صامتون، لأن عقابكم لن يكون في المرة القادمة السجن وحده». وعندما قامت الثورة، كان من غير المعقول نسبتها إلى أخطاء سياسية لقيادة تقول عن نفسها إنها معصومة ومنزهة، وكان لا بد من الكذب والقول إن منظمات مسلحة تقف وراء الأزمة/ المؤامرة. سأفترض أن هذا الكلام صحيح مائة في المائة. كم كان عدد المسلحين عند بدء الحراك وكم هو اليوم؟ لقد كانوا في البداية سريين، لكنهم يتجولون الآن بسلاحهم داخل مدينة دمشق وفي وضح النهار، بعد عام ونصف العام تقريبا من تطبيق الحل الأمني؟ إذا كان عدد هؤلاء قد ازداد، فهذا يعني ببساطة أن الحل الأمني فشل وشبع فشلا. وإذا كان الجيش قد فقد ربع عديده، الذي انتقل معظمه إلى الجانب الآخر وشرع يقاتل ضده، فهذا لا يعد بدوره نجاحا للحل الأمني، بل هو فشل ذريع له. وإذا كان الحل الأمني طبق بذريعة حماية المدنيين من العصابات، وكان هؤلاء في وضع يمكنهم من ذبح وجرح (416 مواطنة ومواطنا!) من سكان الحولة، ومن تهجير سبعين في المائة من سكان حمص، وتشريد وحرق وتدمير منازل ومزارع ومرافق عامة في كل مكان من أرض سوريا، إن نحن صدقنا ما يقوله النظام، ألا يعتبر هذا دليلا لا يدحض على فشل الحل الأمني، الذي لم ينجح في حماية أحد، بمن في ذلك كبار ضباط الجيش والأمن؟ في هذه الحالة، أليس من حقنا تصديق أنه لم يكن مكرسا لحماية أحد، وأن النظام يكذب حين يحاول تسويقه كحل يريد حماية الشعب من المسلحين، وأنه استهدف منذ البداية ما تحقق بالفعل على أرض الواقع: قتل الناس بلا حساب، وسحق المجتمع المطالب بالحرية بالقوة؟

لقد اعتمد الحل الأمني وسيلة وحيدة للتعامل مع المواطنين، وها هو يبدو كسلاح ذي حدين، بدلالة أرقام قتلى السلطة الذين يصلون إلى العشرات كل يوم، إن صدقنا الأرقام الرسمية، التي تخفض أعداد قتلاها بعد أن تعالت مؤخرا أصوات الاحتجاج ضد موتهم المجاني، وشرع بعض ذويهم يرفضون استقبال جثامينهم، بينما تنتشر قبور من قتلوا منهم في كل قرية وبلدة من القرى والبلدات الموالية للسلطة، ويقال إن هناك عائلة فقدت كل أبنائها، وإن أما ثكلى قالت لمن جاء «يزف إليها بشرى استشهادهم»: «قل له أن يوفر حياة الناس وألا يتسبب في موتهم جميعا من أجل كرسيه»!

ليس هناك اليوم سوري واحد يؤمن بنجاح الحل الأمني، وإن كان السوريون جميعهم يخشون نتائجه الكارثية عليهم. ولم يعد هناك شخص واحد لديه اليوم أي أوهام حول احتمال نجاحه. لكن النظام يتمسك به ويواصل تطبيقه وتوسيع نطاقه، وصولا إلى الحرب الأهلية، التي يرفضها الشعب ويقاومها، لعلمه أن الغرض منها الحيلولة بينه وبين نيل حريته والتخلص من النظام.

كان النظام يدعي أن حله الأمني سيعيد الأمن والهدوء والحياة الطبيعية إلى البلاد والعباد. واليوم، وبعد أن خرب هذا الحل سوريا، وقطع أرزاق وأعناق الناس، من دون أن يفلح إلا في زيادة خروجهم عليه ورفضهم له والتصميم على قهره وإسقاطه، ماذا يبقى لبعض أهله غير وقفه قبل أن يبتلعهم هم أنفسهم، والانضمام إلى شعبهم المتسامح والشريف، ولبعضهم الآخر غير «ضب» حقائبهم ومغادرة البلاد، قبل أن يغلق مطارها ويصير فرارهم منها مستحيلا؟