روسيا: كيفية التعامل مع بوتين

TT

بعد سنوات من التردد بشأن الخيارات الاستراتيجية لروسيا، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدأ يرى أن الاعتماد على أسلوب الحرب الباردة في السياسة الخارجية هو الخيار الأمثل بالنسبة له.

وقد استلهم بوتين استراتيجيته الجديدة من شعوره بخوف حقيقي، أما الشيء الذي يحد من تلك الاستراتيجية فهو أن بوتين يحدوه أمل ما، ولكنه يحتوي على بعض المشاكل. ويكمن الخوف في أن روسيا قد تصبح هدفا لإحدى هذه «الثورات المخملية» التي أدت إلى تغيير الأنظمة في الكثير من البلدان التي كانت تقع في مجال نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، قبل الانتقال إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

ومنذ إعادة انتخاب بوتين كرئيس للبلاد بشكل مثير للجدل، لا يكاد يمر يوم واحد من دون أن تشهد البلاد احتجاجات تتزايد يوما بعد الآخر. في البداية، كانت المسيرات المناهضة لبوتين تجوب شوارع مدينة سانت بطرسبرغ والعاصمة موسكو فقط، ولكن خلال الأسابيع القليلة الماضية، امتدت تلك المسيرات إلى مناطق أخرى، لعل أبرزها مدينة ييكاتيرينبرغ التي تعد ثالث كبرى المدن الروسية.

وحتى الآن، كانت أخطر الاحتجاجات التي شهدها بوتين هي الاحتجاجات المسلحة والهجمات الإرهابية في الشيشان وأجزاء من داغستان، وكان من السهل عليه تعبئة المشاعر الوطنية الروسية ضد الأقليات العرقية مثل الشيشان وإنغوشيا وداغستان، ولكن الاحتجاجات في قلب روسيا تعد شيئا مختلفا بالطبع.

ومما لا شك فيه أن تلك الاحتجاجات لا تملك القاعدة الشعبية الكبيرة حتى الآن، كما أن بوتين لا يزال يتمتع بقوة سياسية كبيرة تجعله لا يشعر بأنه مهدد. ومع ذلك، قد يخرج هذا اللهيب البطيء لتلك الاحتجاجات منخفضة الكثافة عن السيطرة بكل سهولة.

ويدرك بوتين جيدا أنه غير محصن وأنه عرضة للسقوط، حيث إن الكثير من الروس الذين أعجبوا بسياسة القبضة الحديدية التي اتبعها ضد الشيشان، قد بدأوا يشككون في أساليبه الوحشية، علاوة على أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة تمثل هبوطا حادا في شعبيته في جميع أنحاء روسيا.

وفي نفس الوقت، لم يعد بإمكان بوتين أن يعول كثيرا على تحقيق نجاح اقتصادي نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، حيث بدأت أسعار النفط والغاز الطبيعي تدخل منحنى هبوط شديد منذ أكثر من عام، وقد لا تتعافي في القريب العاجل نتيجة الركود العالمي الذي وصل لمرحلة أسوأ مما يتخيله الكثيرون. وفي نفس الوقت، تؤدي السياسات الصادمة التي يتبعها الكرملين إلى عزوف المستثمرين الأجانب عن العمل في روسيا. وفي الوقت الراهن، تحاول شركة «بريتش بتروليوم» إنهاء أعمالها في روسيا.

وعلاوة على ذلك، ثمة خطر آخر على البند الثاني في المعجزة الاقتصادية لبوتين، الذي يتمثل في الاستثمارات الصينية الضخمة، ولا سيما في مجال البنية التحتية في سيبريا والشرق الأقصى، حيث يتم إعداد مدينة فلاديفوستوك الروسية لتصبح مركزا للتجارة والصناعة لكل من روسيا والصين وكوريا الجنوبية واليابان. وعلى الرغم من ذلك، ثمة تباطؤ في الاقتصاد الصيني نفسه، وهو ما يجعل من الصعب عليه الحفاظ على معدلات الاستثمار الأجنبية المرتفعة.

ووفقا لأفضل التقديرات، يتجه الاقتصاد الروسي إلى الركود، حيث يفقد 3000 روسي وظائفهم كل يوم. ولم يعد من المرجح أن يتحقق الوعد الذي قطعه بوتين على نفسه بزيادة الإنفاق العسكري بنسبة 21 في المائة.

إن مقاومة الشعور بالخوف من حدوث «ثورة مخملية» هو الأمل في وجود تكتل جديد للقوة تلعب روسيا فيه دور القائد. ومع ذلك، ثمة تناقضات في قلب التحليل الذي يتبعه بوتين، فمن جهة يعتقد أن الولايات المتحدة هي من تقف وراء «المؤامرات» التي أدت إلى تغيير الأنظمة في الكثير من البلدان. وبحكم تدريبه وعمله كجاسوس، لا يمكن أن يتصور بوتين وقوع الأحداث الكبرى دون وجود درجة ما من المؤامرة على مصدرها.

ومن ناحية أخرى، يعتقد بوتين أيضا أن الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس باراك أوباما، قد بدأت تراجعا تاريخيا من شأنه أن يخلف مساحات شاسعة خالية يمكن أن تملؤها روسيا. وفي حال إعادة انتخاب أوباما، فسيكون أمام روسيا أربع سنوات أخرى تستطيع خلالها التأكيد على دورها القيادي في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط.

وهذا هو السياق الذي يجعل روسيا مصممة على القيام بدور قيادي في تشكيل مستقبل سوريا. ومع ذلك، فإن محاولات بوتين لإقامة محور بين موسكو وطهران وبكين لا يهدف إلى الإبقاء على بشار الأسد في سدة الحكم، ولكن الهدف يكمن في التأكد من أن رحيل الأسد الذي لا مفر منه لن يؤدي إلى استبعاد روسيا من سوريا.

وفي وقت ما كانت روسيا، في شكلها السوفياتي، هي القوى الكبرى الرئيسية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ولكن خلال العشرين عاما الماضية فقدت روسيا كل مواقعها تقريبا في تلك المنطقة التي تشكل جزءا رئيسيا من بيئتها الجيوسياسية.

ولن يستطيع بوتين أن يمنع تغيير النظام في سوريا. وتحت أي شكل من الأشكال، يعلم الأسد بالفعل أنه سيكون خارج السلطة في سوريا في المستقبل. ومع ذلك، يمكن لبوتين أن يبطئ من سرعة الانتقال الحتمي في سوريا، وهو ما من شأنه أن يزيد من الثمن الذي سيدفعه الشعب السوري لكي ينال حريته.

وحتى لو لم يكن مستقبل سوريا في خطر، فإن الديمقراطيات الغربية وحلفاءها العرب كانوا سيواجهون مشكلة في نسج روسيا في النظام الجيو - استراتيجي الجديد الذي يتشكل في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

وفي نهاية المطاف، سوف يتوقف مصير بوتين على الشعب الروسي نفسه، سواء في انتخابات أخرى أو من خلال انتفاضة شعبية. ومع ذلك، فإن الفوضى في روسيا الآن لن تصب في مصلحة أي طرف من الأطراف.

روسيا ليست هي الاتحاد السوفياتي، فربما تكون روسيا خصما، ولكن لا يمكن النظر إليها على أنها عدو يشكل تهديدا وجوديا. وبصفتها قوى إقليمية كبرى، فإن روسيا تطلب أن يكون لها دور بارز في القضايا الإقليمية والدولية. وفي الحقيقة، لا يوجد أي سبب لعدم استيعابها وقتما وحيثما كان ذلك ممكنا. وإذا ما ركنت روسيا لآلياتها الخاصة، فإنها ستكون غير قادرة على المساهمة بشكل إيجابي في السلام والاستقرار الدوليين. وعلى النقيض من ذلك، قد تتحالف روسيا مع الأنظمة المغامرة مثل النظام الإيراني بهدف إلحاق الأذى بالآخرين.