الرداء الاحتفالي

TT

دخل أمين معلوف الأكاديمية الفرنسية، أمس، بالثوب الاحتفالي الذي يعطى في «مجمع الخالدين» ومعه سيف حفرت عليه صورة أرزة من لبنان. تقدمت معلوف إلى هذا الموقع المرتفع كتبه المستوحاة من التاريخ والمحبة والعِبر. رأى في التاريخ كنزا ومنبعا، أمجادا وآلاما، حروبا وهزائم، فانصرف يستعيد قراءته ويحوله، بأسلوبه التطريزي الجميل والمصفى، إلى روايات ساحرة.

حافظ معلوف، وهو يحلِّق بالفرنسية، على تشبعه بالحضارة العربية. وقبل أن تنقله الحرب اللبنانية إلى الكتابة بالفرنسية، كان يكتب بعربية رائقة رقراقة دائما كأنه يرسم لا يكتب. ودائما كان يكتب وكأنه يؤدي فرضا مدرسيا يخشى أن يعطى عليه علامة غير لائقة بفن الحبر وسحر الورق.

دافع معلوف في جميع كتبه عن تراثه المتعدد. قال في «الهويات القاتلة» إنه لا يستطيع الخروج من حضارته المولودة، وكرر ذلك في «اختلال العالم». وبفن سردي رائع، جعل من حكاية قريته وعائلته في «جذور» نموذجا عالميا للملاحم التي يكتبها الناس البسطاء والعاديون. فليست كل ملحمة إلياذة. وتحولت كل أعماله إلى ملتقى بين أولئك الذين يلتقون ولا يلتقون.

منذ كتابه الأول، «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، طرح نفسه كاتبا يلتزم العدالة من خلال الفن لا من خلال الخطابيات، وعبر الحقائق لا عبر الألفاظ. وفي كتابه التالي والأكثر شهرة «ليون الأفريقي»، روى حكاية العالم المسلم الذي أثرى مكتبة الفاتيكان بالتراث الإسلامي، قبل أن يعود في نهاية المطاف إلى إسلامه.

سر أمين معلوف في أنه عرف قيمة موهبته، فلم يستخف بها. أعطاها كل وقته ولم يعط الالتهاء عنها إلا حكم الضرورة. وقسم عمله إلى قسمين متساويين: الأول للبحث والثاني للكتابة. ويحمل الاثنين إلى جزيرة بعيدة عن ملهيات باريس لكي يتكرس إلى تلك الخلطة السحرية التي يمكن تسميتها للاختصار بالإتقان.

الإتقان هو طريقه إلى العالمية وسلمه إلى الأكاديمية التي لم يصل إليها مئات الأدباء الفرنسيين، فيما وقف كبارها يستقبلون ابن قرية لبنانية لا يتجاوز عدد بيوتها العشرة. لم يكن الطريق سهلا ولا حتى متخيلا أو قائما حتى في الحلم. لكن هذا ما تؤدي إليه الموهبة إذا أعطيت كل هذا الاجتهاد. لو عاش والده الذي ورث عنه الكتابة والخلق والعمل، لكان الوحيد الذي صدّق أن ابنه سيصل إلى الأكاديمية ذات يوم.