معجزة تحت الطلب!

TT

قال وزير الدفاع الأميركي، إن حل الأزمة السورية يتطلب «معجزة خاصة». هذا القول هو تنويعة مختلفة بعض الشيء عن أسلوب التعبير الدبلوماسي الأميركي عن العجز حيال الحدث السوري، أو قل هو طريقة عسكرية خاصة في التعبير عن عدم الرغبة في فعل أي شيء من شأنه إيقاف النظام السوري عند حد، ومنعه من قتل شعبه بالجملة والمفرق.

تشبه «معجزة» الوزير بانيتا «العصا السحرية»، التي لا يكف الرئيس بشار الأسد عن الحديث عنها، مسوغا بافتقاره إليها الأخطاء والعيوب والنواقص والجرائم التي تفتك بسوريا، والتي دأب على تسويغها بعدم وجود عصا سحرية لديه يحل بواسطتها مشكلات نظامها وشعبها، كأن حل هذه المشكلات وتحسين حياة ومعاملة الشعب يحتاجان فعلا إلى عصا سحرية.

ومع أن كثيرين قالوا لبشار الأسد، إن من يحتاج إلى عصا سحرية هو الساحر الذي يريد التلاعب بعقول ومشاعر مشاهديه، وإنه كرئيس جمهورية لا يحتاج إليها، بل يحتاج إلى إزالة السحر عن الواقع لمعرفته بدقة، كما يحتاج إلى امتلاك رغبة صادقة في تغييره نحو الأفضل، وإلى الإخلاص للشعب السوري، الذي كان ينتظر منه أعمالا لا تبريرات بائسة لرفضه القيام بأي عمل مفيد، بعد بدء رئاسته في يوليو (تموز) من عام 2000. لكن الأسد عاد في خطابه الأخير إلى قضية العصا السحرية، لاعتقاده أن الحديث عنها مقنع ويبرر ما يرتكب في سوريا من مخاز ومآس ومجازر أنتجتها عصا أخرى هي عصا سياساته وخياراته الأمنية - العسكرية، التي تبين أنها على درجة من الهول والفظاعة جعلت منها خطرا داهما يفتك بشعب سوريا ودولته، ويكاد يقضي عليهما.

يريد بانيتا لمعجزته أن تحقق عكس ما تحققه عصا الأسد الأمنية: إيجاد أعذار تسوغ عدم تدخل أميركا العسكري في سوريا. ومع أننا لم نطالبها بالتدخل، لعلمنا أنها لن تتدخل من جهة، وشكوكنا بمقاصدها الحقيقية في المسألة السورية من جهة أخرى، فإن تكرار التخوفات الأميركية من الدخول إلى الأزمة يثير الريبة لدى قطاعات واسعة من الشعب والمعارضة في سوريا، ويمثل في نظر كثيرين إهانة لذكائهم، خاصة عندما يبدي مسؤول العسكر الأميركي وزملاؤه الدبلوماسيون التخوف من الحرب الأهلية، التي يعلنون أنها قد تقع في حال تدخلوا، بينما يمكن ملاحظة ظاهرة لا يجوز أن تتعامى عنها عين متابعة، مهما كانت غير مدققة، هي أن النظام يريد إغراق الشعب في هذه الحرب، ويدفع السوريين إليها بكلتا يديه، وبكل ما يملك من وسائل العنف والقتل، فليس التدخل العسكري هو الذي سيفجرها، بل الامتناع عن اتخاذ أي إجراء من أي نوع ضد سياسات السلطة السورية، علما بأن قوس الإجراءات الدولية غير العسكرية ليس ضيقا، كما يحاول المسؤولون الأميركيون إيهامنا، وبأن لديهم وسائل «سلمية» تمتلك قدرا من الفاعلية لا يقل عن فاعلية الإجراء العسكري، وإلا فليفسر هؤلاء لنا سر ذلك الانسحاب الهروبي الذي قام به بشار الأسد من لبنان، بمجرد أن صدر قرار دولي يطالبه بذلك، ودون أن تحشد ولو قطعة بحرية واحدة قبالة سواحله، أو تتحرك طائرة واحدة في أجواء المنطقة!

تضعنا تصريحات الوزير بانيتا أمام واقع يخبرنا بأن خيارات أميركا باقية على حالها بالنسبة إلى سوريا وأزمتها، وأنها تتراوح ما بين التذرع بالعجز عن القيام بفعل مؤثر وبين ترك الأمور تأخذ مجراها، كي تعصف بحياة المئات من المواطنين السوريين كل يوم. وبما أنه من الصعب أن نصدق ما يخبرنا السيد بانيتا به، وهو أن بلاده تفتقر إلى وسائل الضغط المناسبة والفاعلة في منطقتنا، مع أنها ركزت 80 في المائة من جهودها الدبلوماسية والسياسية والعسكرية عليها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وأعلنتها منطقة خاصة بها وحدها في نظامها العالمي الجديد، وقالت بلسان الرئيس جورج بوش الأب إنها لن تسمح لأحد بالتموضع فيها، فإننا لن نقبل ما يقال اليوم في واشنطن عن دورها في الأزمة، لأنه قد يتغير في أي وقت، ولن نؤمن بمعجزة الوزير ونود تذكيره بأن أميركا لا تعتبر سوريا منطقة تريد انتزاعها من أحد، وأنها تسلم بأرجحية مصالح الروس فيها، ولا تفكر بإخراجهم منها، ولا تعمل إلى اليوم على إيجاد حل لمشكلتها بمعزل عنهم، لذلك لا تفعل الكثير كي تكون لها اليد الطولى فيها، وتحاول ممارسة دورها السوري من خلال دورهم هم أو عبر الاستعانة بهم.

كل ما في الأمر أننا لم نفهم خلال الفترة الماضية لماذا لم تضغط واشنطن عليهم بصورة جدية كي يبادروا إلى رؤية المشكلة السورية في حجمها الحقيقي، ويسارعوا إلى تقديم حل لها نعرف أنهم يستطيعون تنفيذه بمجرد تهديد قادة دمشق بسحب تأييدهم الدولي والداخلي لهم، وتركهم يواجهون مصيرهم بمفردهم، وأن هلاكهم سيكون عندئذ مؤكدا مهما كان دور إيران في دعمهم. هنا، في هذا التقاعس، تكمن مشكلة السياسة الأميركية ومشكلتنا معها: إنهم لا يفعلون شيئا للتدخل بكامل ثقلهم الدولي والإقليمي في الأزمة، ولا يطالبون الروس بوضع حد لها، فهل هذا محض مصادفة أم أنه سياسة مدروسة يراد منها إيصال الوضع السوري والروسي في سوريا إلى حافة الاهتراء، قبل إنضاج حل يفرض عليهما، بما تمتلكه أميركا من قدرات ووسائل يريد الوزير إقناعنا بأنها ليست اليوم في حوزتها!

مهما يكن من أمر، لا أعتقد شخصيا أن موقف الوزير لا يقبل التغيير، وأؤمن جازما بأن دفع النظام بالوضع إلى الحرب الأهلية سيغير معطيات الصراع ومواقف العالم البعيد والقريب منه، وسيجبره على رد مخاطره عنه وعن المنطقة. عندئذ، سنكتشف في السيد بانيتا وزيرا أميركيا مختلفا، لا يسوغ سلبية بلاده بحاجتها إلى معجزة، بل يصنع المعجزة المطلوبة بكل بساطة: ولكن دفاعا عن مصالح أميركا، التي لم يهدد النظام السوري أي واحدة منها إلى الآن، فتحجم واشنطن من جانبها عن فعل أي شيء جدي يهدده، بانتظار ظروف مغايرة تكون لها فيها الكلمة الفصل في مصيره.

هذه هي، في رأيي المتواضع، حدود الدور الأميركي واحتمالاته، فلا هو بحاجة إلى معجزة تشبه عصا بشار الأسد السحرية التي انقلبت إلى عصا أمنية، وليست أميركا عاجزة عن فعل ما تريد إلا لأنها لا تريد، وإن غدا لناظره قريب!