يوم مصر

TT

يميل الصحافيون الناشئون، في حماسهم غير المصدوم، إلى المقارنة بين أحداث لها عناوين متشابهة عندنا وفي أوروبا. مارست هذه السذاجة الطيبة زمنا طويلا. التوبة.

ولكن فقط من قبيل الصدف موجود اليوم في باريس، حيث الجولة الثانية من الانتخابات النيابية، وقلبي في مصر، أو عليها. منذ نصف قرن وأنا أغطي انتخابات فرنسا، ولم يخطر لي مرة أن أتابع أي انتخابات عربية. إذا وجدت.

ومنذ 50 عاما والانتخابات في أوروبا لا تغير سوى اسم الحزب الحاكم. عملية لا دخل فيها للجيش ولا لأي مؤسسة وطنية أخرى، سواء كانت محكمة عليا أو محكمة وسطى. والمؤسف أن القضاء المصري الذي كان كثيره فوق الشبهات، أقحم في متغيرات مصر بدل أن يبقى في ثوابتها. والمؤسف أيضا أنه زاد في صورة الضياع في مصر التي فقدت الصورة الواحدة في عقول الناس وفي قلوب المصريين.

لقد عرَّبنا الديمقراطية التي لا تحتمل انتقائيات وتفسيرات التعريب. بدأ ذلك في الجزائر عندما دعي الناس إلى الاقتراع، فلما اقترعوا بعكس ما هو متوقع، قلبت الدولة الصناديق على رؤوسهم. في لبنان كنا في الماضي نتحاشى مثل هذه المفاجآت، إما بتغيير الصناديق قبل الاقتراع وإما بإضافة صناديق أخرى بعده. صحيح أن في ذلك بعض التزوير لكنه أيضا يسد باب المفاجآت ووجع الرأس.

تخيفنا أوضاع مصر. والسبب، مكررا للمرة المائة، لأن مصر ليست لبنان ولا حتى سوريا أو العراق أو الجزائر. مصر، مثل النيل، قضاياها تفيض وتظمي. سكونها طويل وفورانها صاعق. نهضتها عميقة وثورتها طاحنة. لذلك كنا نقول، بقدر كبير من السذاجة والحلم، إن مصر ليست في حاجة إلى ميدان وشوارع ولا إلى المزيد منها، بل إلى بناء ومصانع وإيواء أطفال الشوارع ودخول عصر الإنتاج ورمي أهل الكلام تحت المنابر.

لا أحد يشعر هنا في فرنسا أن الدولة غيرت رئيسها قبل أسابيع وتغير برلمانها اليوم. لا صوت في الشوارع ولا زعيق ولا تهديدات. إذا أخفق الرئيس أو النائب أو الحزب، يرسله الناخبون إلى بيته بورقة صغيرة. لا تهديدات ولا خوف على الوطن ولا على الأمة. ولا وقوع في الإفلاس والفقر كما في مصر أو سوريا، فيما الهتاف يصم الآذان ويجلِّد العقول: بالروح بالدم.

ألا يكفيه الحكم والرئاسة وما معهما؟ أتمنى أن أكون مخطئا - وكذلك الأستاذ عبد الرحمن الراشد - وأن تكون مصر أكبر من مخاوفنا. كما أتمنى أن تخرج مصر من الانتخابات إلى العمل قبل أن تعلن إفلاسها مثل الصرار اليوناني الذي يبكي الآن ما أضاعه في الغناء.