روجيه غارودي يغلق العصر

TT

من عام 1913 إلى عام 2012 يكون روجيه غارودي قد عاش قرنا بأسره تقريبا. لقد أغلق العصر تماما. عندما فتحت على مواقع الجرائد الفرنسية للاطلاع فوجئت بأنها جميعها تذكر الخبر على النحو التالي: موت أحد منكري المحرقة اليهودية! كدت أنفجر بالضحك والغضب في ذات الوقت. هل يمكن اختزال رجل عاش كل هذا العمر وشغل العالم بكتاباته ونضالاته السياسية على مدار نصف قرن إلى حدث واحد فقط؟ ألم يفعل في حياته شيئا آخر غير إنكار المحرقة اليهودية؟ وأعتقد أنه لم ينكرها إلا للاحتجاج على الهيمنة المطلقة التي لا تطاق والتي يمارسها اللوبي الصهيوني على الساحة الفرنسية والأميركية والعالم الغربي بمجمله. أو قل بأن كتابه مؤلف من أطروحتين أساسيتين: الأولى صحيحة والثانية خاطئة. تفكيكه للأساطير اللاهوتية القديمة التي استخدمتها الحركة الصهيونية لخلع المشروعية على تأسيس الدولة الإسرائيلية بارع ومقنع. ولكن إنكاره للمحرقة اليهودية إبان الحرب العالمية الثانية على يد هتلر خاطئ.

المهم أنه بعد هذا الحادث أسدل على الرجل ستار كثيف من الصمت في فرنسا وعموم الغرب، وقبر حيا لمدة عشرين سنة حتى مات أخيرا. أنا شخصيا لا أوافق على إنكاره لحصول المحرقة النازية الإجرامية. ولا أتفق معه في هذه النقطة أبدا. موقفي بهذا الخصوص هو نفس موقف إدوارد سعيد. لقد حصلت بالفعل. يقول المفكر الفلسطيني الشهير موجها تحذيره إلى المثقفين العرب الميالين بشكل أوتوماتيكي للسير وراء أي شخص ينكر عذابات اليهود ومحرقتهم الكبرى: «ينبغي العلم بأن السير وراء روجيه غارودي وأصدقائه التحريفيين بخصوص هذه المسألة باسم الدفاع عن حرية التعبير ما هو إلا عبارة عن حيلة غبية لن تؤدي إلا إلى فقدان المثقفين العرب لمصداقيتهم أكثر في نظر العالم». وقد صدق. ولكن هل تبرر هذه المحرقة حرق الآخرين أو استئصالهم وتشييد دولة على أنقاضهم؟ هذا هو السؤال الذي لا يستطيع أكبر فيلسوف صهيوني في العالم أن يتحاشاه مهما فعل، أو مهما ناور وراوغ.. نعم إننا ضد المحرقة اليهودية وندينها بشكل كامل ومطلق. ولكننا أيضا ضد المحرقة الفلسطينية التي نتجت عنها مباشرة. لو أن روجيه غارودي اكتفى بقول ذلك لما كان هناك أي غبار على كتابه. ولكنه لم يكتف، وإنما راح ينكر حصول المحرقة ويبرئ الغرب من المسؤولية. في الواقع أن الغرب المهيمن المتغطرس هو المسؤول عن عذاب اليهود والفلسطينيين على حد سواء. بل وما الفكرة الصهيونية ذاتها إلا «إبداع» غربي إذا جاز التعبير. انظر كيف يتحدث عنها ساركوزي أو برنار هنري ليفي بشكل عشقي غرامي ويعتبرها معجزة العصر وتحفة الوجود. وبالتالي فقد قدم غارودي هدية مسمومة إلى المثقفين العرب إذ أنكر حصول المحرقة، وللأسف فقد وقعوا في الفخ إلا من رحم ربك..

لكن من هو روجيه غارودي؟ كم من الصعب الإجابة عن هذا السؤال!.. فالرجل من كثرة تقلباته وتناقضاته ضيع البوصلة وحير الجميع. لا يوجد أي تماسك في مساره الفكري أو السياسي، أو قل إنه متماسك من خلال اللاتماسك. فقد انتقل من الكاثوليكية إلى البروتسانتية ومن البروتساتنية إلى الشيوعية ومن الشيوعية إلى الإسلام ومن الإسلام إلى نقد كل الأصوليات المتزمتة.. في الواقع أنه طيلة حياته كلها كان يبحث عن يقين راسخ، عن دين يحميه ويخلع المعنى على وجوده. وهذا ليس شيئا سلبيا بحد ذاته بل إنه مشروع تماما. فهناك قلق وجودي في هذا العالم ويحق لنا أن نبحث عن طوق النجاة مع علمنا بأن النهاية معروفة ومحتومة مهما طال الزمن. وقد طال بغارودي حتى بلغ من العمر عتيا.. يبدو أنه كان يكره دائما الأقوياء والمهيمنين. وهذه صفة إيجابية بحد ذاتها. ففي البداية كان يكره تغطرس الرأسمالية الأميركية على العالم ولهذا السبب أصبح شيوعيا في العشرين من عمره. وبقي لهواه الشيوعي مخلصا حتى تجاوز الخمسين وشارف على الستين. طيلة كل تلك الفترة كان شيوعيا متحمسا. وقد وصل به العمى الآيديولوجي إلى درجة أنه كان يعرّف نفسه على النحو التالي: أنا شخص ستاليني من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه! برافو! مبروك عليك! وبناء على هذا التصريح منحته جامعة موسكو دكتوراه في الفلسفة. ولكن ما قيمة شهادات جامعة موسكو في ذلك الوقت؟ ولكن للحقيقة والتاريخ ينبغي الاعتراف بأن هذا العمى الآيديولوجي لم يكن مقتصرا عليه أبدا. وإنما كان يشمل أغلبية المثقفين الفرنسيين في ذلك الوقت.

هل يشكل ذلك عزاء للمثقفين العرب الذين لا يخرجون من عمى أيديولوجي حتى يدخلوا في آخر؟ لا أعرف. ألم يكونوا متدينين شيوعيا طيلة الخمسينات والستينات وبشكل أعمى أيضا قبل أن ينقلبوا على ذلك لاحقا ويركبوا موجة الحركات الأصولية والخمينية المعاكسة تماما. والآن يريدون إقناعنا بأن الإخوان المسلمين يمثلون ذروة الديمقراطية! في الواقع أنهم انتقلوا من آيديولوجيا دينية إلى آيديولوجيا دينية أخرى. الشيوعية كانت دينا. نقطة على السطر. أين هو الحس النقدي؟ لا يوجد. ولكن إذا كان المثقفون العرب معذورين بسبب ضعف الثقافة العربية وهشاشتها علميا وفلسفيا فإن روجيه غارودي غير معذور على الإطلاق.

هل يمكن اختزاله إلى ذلك؟ لا أعتقد. إنه شخص معقد جدا ومفكر متعدد الجوانب ولا يخلو من الموهبة أو العمق فلسفي. إنه يعرف كيف يثور على الدوغمائية المتحجرة عندما تصبح امتثالية طاغية. ولذلك ثار على الاتحاد السوفياتي بعد أن سحق بالدم ربيع براغ عام 1968. وهذا موقف يسجل له وكان السبب في طرده من المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي عام 1970. وعندئذ أصدر كتابه: «اشتراكية بوجه إنساني». وكان يقصد ضمنا أن اشتراكية الشيوعيين ليست إنسانية وإنما همجية. وكان قد ابتدأ ينقلب على الستالينية التي عبدها سابقا بعد أن اكتشف طابعها الدموي الإجرامي. بل وراح ينقلب على نظرية الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن. وهي النظرية التي فرضوها بالقوة على جميع كتاب الاتحاد السوفياتي منذ أيام جدانوف السيئ الذكر. فكان أن انتهى الفكر والإبداع لمدة سبعين سنة متواصلة في ربوع الشيوعية العمياء. وهذا هو أحد أسباب سقوطها عام 1990 لأن الكذبة مهما كانت كبيرة تسقط يوما ما، والحقيقة تنتصر في نهاية المطاف، وكذلك الحرية. لقد نشر غارودي كتابا جميلا في منتصف الستينات بعنوان: «واقعية بلا ضفاف». وهو بمثابة رد قوي على الواقعية الاشتراكية المتحنطة التي تقتل روح الإبداع والفن. لقد اعتمد غارودي على الشاعر الكبير أراغون والرسام العبقري بيكاسو لكي يجدد النظرية الأدبية ويخرجها من قوقعة الواقعية الاشتراكية. وقدم للكتاب بيكاسو شخصيا.

لا أعرف فيما إذا كان التاريخ سيذكره كفيلسوف كبير ولكنه حتما مفكر لا يستهان به. وأعتقد شخصيا أنه بعد خطيئة شبابه الكبرى في الانتساب إلى الدوغمائية الشيوعية وتعطيله لملكاته العقلية طيلة فترة طويلة أصبح أكثر مرونة فيما بعد. بل وأصبح أكثر حذرا تجاه الآيديولوجيات الانغلاقية التي قد تسحرك وتعطل ملكاتك النقدية الإبداعية إذا لم تنتبه لحالك جيدا.. يلومه البعض في الغرب لأنه اعتنق الإسلام ويستهزئون به! ولكن لا أحد يتحدث عن نقده الذكي والعميق للأصولية الإسلامية وكل الأصوليات الأخرى من مسيحية أو يهودية صهيونية أو حتى مادية الحادية. لماذا لا يذكرون كتابه: «من أجل إسلام يليق بالقرن العشرين؟» أو كتاب: «الإسلام والأصولية المتزمتة؟» لماذا لا يتحدث أحد عن كتابه الجميل الذي اكتشفته فجأة يوما ما واستمتعت به كل الاستمتاع: «الإسلام والغرب: قرطبة كعاصمة للفكر البشري؟» ولا أعرف لماذا لم يترجمه العرب حتى الآن؟ في هذا الكتاب يشرح غارودي مدى عظمة الفكر العربي الإسلامي في الأندلس ومدى مديونية أوروبا له. إنه يقول لنا بأن إسلام التنوير كان موجودا وإن إسلام الفقهاء الظلاميين هو الذي قضى عليه في نهاية المطاف. إنه يطالب الغرب بالتواضع والاعتراف بأن العرب المسلمين هم أصل النهضة الأوروبية. وبالتالي فالرجل لم يصبح مسلما بشكل أعمى على الطريقة الانغلاقية السلفية وإنما كان معجبا فعلا بإسلام الأنوار الذي أشع على العالم يوما ما.

إن ما كتبه عن علل العالم الإسلامي الراهن وتحجره العقلي مفيد جدا لنا. وينبغي أن نطلع عليه لكي نستفيد منه ونحاول الخروج من المغطس الذي وقعنا فيه بعد الدخول في عصر الانحطاط، عصر التكرار والاجترار. يا ليت أن هناك مسلمين كثيرين من حجم روجيه غارودي ونوعيته! لو حصل ذلك لكانت الدنيا بألف خير ولكان العالم الإسلامي قد التحق بركب الحضارة منذ زمن طويل.