سؤال «من أنا؟» وقليل من الإجابات المتوقعة

TT

بعد العمل أستاذا في الشرق الأوسط لمدة ست سنوات، تعلمت أن تكون استنتاجاتي بشأن هويات طلبتي وما تعنيه غير نهائية. وتتضمن أكثر محاولات تعريف المتلقين على مستوى العالم بـ«الربيع العربي» وتفسيره لهم مصطلحات وضعت بحيث تغطي مجموعات كبيرة من البشر وتوجهاتهم الفكرية ومعتقداتهم والتصرف على هذا الأساس. لذا أصبح لدينا «إسلاميون» و«أصوليون»، الذين عادة ما يتم تصويرهم على أنهم الأشرار، في مواجهة «العلمانيين» و«العلماء» و«المعتدلين» أو حتى «جيل التويتر». ويعتمد الناس في كل مكان على هذه التصنيفات في التوصل إلى الاستنتاجات ويأملون أن تعينهم على إبصار الحقيقة.

بصفتي مغتربا غير خبير بأحوال المنطقة، أتوقف عندما أواجه الفشل في تحديد الهويات حتى أوضحها. نواجه كأميركيين ندرس للعرب في كلية الشؤون الخارجية بجامعة جورج تاون في قطر، إما المديح وإما الإدانة. ويعد هذا عادلا، لكن حتى هذه التوصيفات تكشف عن جوانب، لكنها تخفي جوانب أكثر. على سبيل المثال عندما يشير المحللون إلى صدام الحضارات أو يعلنون عن حتمية الصراعات الأخلاقية أو الحاجة إلى الحوار بين الأديان، إنهم يتجاهلون بذلك حقيقة أننا جميعا نحمل بداخلنا الكثير من الأشياء، فالسؤال «من أنت؟» له الكثير من الإجابات. الكثير من الإجابات صحيحة وعادة ما تكون متغيرة. هويات طلبتي كثيرة، بعضها يفرقنا، وبعضها الآخر يجمعنا. بعيدا عن كوني أميركيا، أنا أستاذهم في إطار ثقافة تبجل المعلمين. أنا أكبر من طلبتي، ولدينا انتماءات أسرية مختلفة. أنا وبعض طلبتي من الرجال، والباقي من النساء، وننتمي إلى أديان مختلفة، لكن بعضنا ملتزم دينيا والبعض الآخر غير ملتزم.

من الناحية السياسية، نحن منقسمون بين ليبراليين ومحافظين وثوريين ويمينيين متطرفين. ربما يمثل الاهتمام بالسياسة والفن والموسيقى والرغبة في جني المال والذوق في اختيار الملابس قواسم مشتركة بيننا. وربما تضحكنا النكات نفسها وتبكينا الأفلام نفسها وتثير أشكال الظلم نفسها غضبنا. يعني الفصل بين هذه الهويات المتعددة والتركيز على واحدة دون الأخرى عزل لأنفسنا عن طبيعتنا المركبة، وكذا عن الأشخاص ذوي الأبعاد المتعددة الذين نحاول أن نفهمهم.

ربما نجنح إلى اختزال الآخر بين هويتين إما مسلح متعصب وإما قديس متسامح. مع ذلك أيا كانت منافع أو «يقينية» تلك التصنيفات، فإنها تجبرنا على الاختيار بين أطراف الجسد الواحد والأفكار التي بداخل العقل والمشاعر التي بين جوانح الآخرين. فكر في أبسط الأسئلة. أحيانا يسألونني عن الطلبة الذين أدرس لهم، وأجد هذا سؤالا صعبا. أكثر طلبتي مسلمون، وكثير من الفتيات ترتدين الحجاب، لكن ما الذي يمكن استنتاجه من مظهرهم؟ إنهم من البوسنة وبنغلاديش، وهناك بينهم لبنانيون مارونيون وأرمن وفلسطينيون مسيحيون، وأحد أفراد الأسرة المالكة في دولة من دول الخليج يتفاخر بكون جدته يمنية يهودية. ويعبر الطلبة، الذين يرتدون الزي التقليدي، عن عدم التزامهم بتعاليم دينهم. وعبر بعض الطلبة في دفتر ذكريات السنة الدراسية عن عشقهم لليدي غاغا وموسيقى الهيب هوب وعن رغبتهم في الإقامة بباريس. ولست متأكدا من عدد الأميركيين الذين أدرس لهم، فمن طلبتي الأذكياء البارعين طالبة ملامحها صومالية ولقبها من أسماء المسلمين وتتحدث الإنجليزية الأميركية. وعلمت أنها نشأت في ويست فيرجينيا، وكانت من أكبر مشجعي فريق جامعة الولاية لكرة القدم والذي يسمى «ماونتييرز». وتعد أسر هؤلاء المراهقين الذين ينتمون إلى أصول مختلفة تجسيدا موسعا لمفهوم الزواج المختلط. من هؤلاء الشباب الابن الأكبر لطبيب فلسطيني وممرضة بولندية. ولا يمكن لأحد أن يتكهن بتوجهاته السياسية، فقد حدثتني زميلة لي عن أول مرة درست له. وروت لي تلك الزميلة أنها تخرجت في كلية «إيفي ليغ» التقدمية للدراسات العليا وتملأها الرغبة في إظهار تعاطفها مع المنطقة لطلبتها الشرق أوسطيين. وكان يعني هذا بالنسبة إليها محاضرة تنتقد خلالها السياسة الخارجية الأميركية. وبعد انتهاء المحاضرة، اقترب منها ذلك الشاب وسألها: «هل ستظل هذه المادة تتضمن الهراء المعتاد عن مناهضة الإمبريالية ومعاداة أميركا؟». وتوقف عن حضور المحاضرات لأنه كان من المحافظين الجدد.

وسجلت طالبة في ثلاث مواد من التي أدرسها وانتهى بنا الحال إلى دورة تعليمية متقدمة عن الدراسات الأميركية نتواصل معا خلالها. وقدمت ورقة بحثية رائعة تضمنت مقارنة بين الانتقادات الصحافية في الهند والولايات المتحدة. وقبل فترة قصيرة من تخرجها، لاحظ معلم مصري أنها كثيرا ما تدخل في جدل معه في الدراسات الإسلامية لأنها كانت من الأصوليين الوهابيين. لم أكن أعرف توجهاته الدينية، ولم أكن بحاجة إلى ذلك. ويتدرج طالب من طلبتي السابقين حاليا في سلم الإدارة في إحدى شركات النفط الأميركية. يوضح هذا أن ما نستخدمه نحن، لا الشرق أوسطيين، من مفاهيم لفهم أشخاص مثل طلبتي قاصرة وعاجزة عن احتواء تنوعهم. وتشكل مخاوفنا واهتماماتنا إدراكنا للأحداث والأشخاص في هذه البقعة من العالم، وبالتالي لا ينبغي أن نتفاجأ عندما لا تحقق تلك السياسات القائمة على هذه المفاهيم القاصرة المحدودة النتائج المرجوة منها إلا فيما ندر.

* أستاذ في كلية الشؤون الخارجية بجامعة جورج تاون بقطر

* خدمة «واشنطن بوست»