هل تشهد الولايات المتحدة نهاية عصر الانغماس في الديون؟

TT

كل جيل يكون لديه حافز لاقتراض أموال سيكتسبها مستقبلا كي ينفق على نفسه، ولكن حتى جيلنا هذا، لم يحدث أن فعل أي جيل من أجيال الأميركيين ذلك بنفس الدرجة التي يفعلونه بها الآن، ومن أكبر الأسباب في ذلك أن الأجيال السابقة لم تكن تشعر بالأمان، فقد كانت تعيش من دون طب حديث ومن دون تكنولوجيا حديثة ومن دون دول الرفاهية الحديثة، كانت تعيش مرضا واحدا، وجفافا واحدا، وركودا واحدا لا يصل إلى حد الكارثة. كانت لديهم كراهية أخلاقية لأمور مثل الإفراط في الاستدانة، مما كان يزيدهم ضعفا.

وفي الآونة الأخيرة، تحسنت الحياة وصارت أكثر أمنا، لكن كراهية الديون تراجعت وسط كل ما تحقق من تقدم، فبدأت الشركات التي تصدر البطاقات الائتمانية في إغواء الناس بالاقتراض أكثر، واكتشف الساسة أنه يمكنهم شراء أصوات الناخبين بأموال مقترضة، وأصبح الناس يشعرون براحة أكبر وهم محملون بالديون.

إننا نشهد اليوم عصر الاستدانة، وأصبح المجتمع خلال السنوات العديدة الماضية مذبذبا بدرجة أكثر تطرفا من أي وقت مضى، رغم حدوث ثلاث فقاعات ناجمة عن الديون.. ففي البداية، كانت هناك فقاعة الإنترنت، تلتها فقاعة التمويل العقاري في عام 2008م، إلى أن وصلنا حاليا إلى فقاعة المالية العامة. ففي الولايات المتحدة، قامت الحكومة الفيدرالية باقتراض ما يربو على 6 تريليونات دولار خلال السنوات الأربع الماضية وحدها، في محاولة لمعالجة آثار الفقاعتين السابقتين، كما تعاني الولايات في مواجهة اتفاقات متعلقة بمعاش التقاعد ما كان ينبغي القيام بها ألبتة، وأوروبا تقف على شفا انهيار تام، في ظل عدم قدرة الحكومات هناك على التوصل إلى كيفية للتعامل مع ديونها، وجميع دول العالم لديها نسبة ديون إلى إجمالي ناتج محلي تبلغ أو تقترب من 90 في المائة، وهي النقطة التي يبدأ عندها معدل النمو في التباطؤ ويتوقف الازدهار الاقتصادي، وكل هذا يعود إلى الزيادة في إمكانية تحمل الديون.

ويحتدم النقاش في ما بين الديمقراطيين والجمهوريين حول مدى الحاجة إلى الإسراع في خفض حالات العجز، غير أن الجميع يدركون ضرورة كبح جماح الديون عند درجة معينة، والمشكلة أن أحدا لم يتمكن من العثور على وسيلة سياسية لتحقيق ذلك.

وتتلخص وجهة النظر الشائعة بين الساسة في أن الخبراء ربما ينتقدون الديون، لكن الناخبين لا يهتمون حقيقة بذلك، فهم لا يريدون أن يواجهوا عواقب مطالبهم المتعلقة بالإنفاق، وسوف يخلعونك من منصبك إذا اتخذت قرارات صعبة يتعين عليك اتخاذها من أجل خفض حالات العجز القائمة، ولهذا تأخذ الديون في التزايد أكثر فأكثر، فالناخبون هم من يريدون ذلك.

ولكن ذلك قد يتغير، مع توجه الناخبين في ولاية ويسكونسن إلى صناديق الاقتراع كي يقرروا ما إذا كان سيتم سحب الثقة من حاكم الولاية سكوت ووكر أم لا. وأنا لست من المعجبين كثيرا بالطريقة التي اتبعها ووكر من أجل خفض الديون، ففي فترة كهذه تشهد اختيارات عسيرة، ينبغي أن يكون أحد المبادئ الأساسية المتبعة هو أننا جميعا في قارب واحد. فإذا كنت ستخفض من نصيب جماعات التأثير على القرار التابعة للحزب المعارض، فإن عليك أن تخفض من نصيب حزبك أنت أيضا، وبهذا تبني الثقة وتعزز التقدم من إدارة إلى التي تليها. إلا أن ووكر لم يفعل ذلك، بل قام بالاجتزاء من نصيب الديمقراطيين فقط. ولكن في العالم الواقعي، لا توجد خيارات مثالية. وقد اعتمد ووكر على الأقل على جماعات تأثير قوية، حيث تمكن بالفعل من تحويل عجز يبلغ 3.6 مليار دولار إلى فائض قدره 150 مليون دولار، وإن كان ذلك قد تم بفضل زيادة هائلة في تحصيل الضرائب، كما أتاح أمام من يرغب من المناطق التعليمية إمكانية توفير الموارد المالية المخصصة للتأمين الصحي بحيث يصبح بإمكانها أن تنفقها على طلابها.

وقد كانت طريقة ووكر طريقة كريهة، ولكن في حالة سحب الثقة منه، فإن هذا سيبعث برسالة أعم تتجاوز آثارها ولاية ويسكونسن بكثير، حيث ستكون إشارة إلى أن الناخبين في الحقيقة ليسوا على استعداد لتقبل القرارات القاسية التي تهدف إلى خفض الديون. وفي واشنطن وعواصم الولايات، سوف تؤدي هذه الرسالة إلى ترسيخ وجهة النظر القائلة إن الناخبين لا يكترثون حقا بالمديونيات، كما ستبدد أي أمل موجود لدى هذه البلاد في أن تتحاشى وقوع كارثة مالية.

وفي المقابل، فإن فوز ووكر سيكون بمثابة علامة، كما يقول خبير تنظيم استطلاعات الرأي سكوت راسموسن باستمرار، على أن الناخبين يتقدمون على الساسة، وسوف يكون علامة على أن الناخبين يقدرون قيمة خفض العجز وأنهم سيصوتون لصالح من يحققون ذلك، حتى في ولاية ظلت أصواتها تذهب إلى الديمقراطيين في جميع الانتخابات الرئاسية التي جرت منذ عام 1984.

وأي تصويت لإبقاء ووكر في منصبه لن يكون تصويتا ضد النقابات المهنية، بل سيكون تصويتا ضد أي مصلحة خاصة تسعى إلى الحفاظ على المزايا الباهظة التي تتمتع بها الطبقة الوسطى على حساب الصالح العام. وسوف ينبئ ذلك مرشحي الرئاسة بأنه من الآمن التحدث بصورة محددة عما سيفعلانه في شهر ديسمبر (كانون الأول) القادم، حينما يتعين عليهما القيام باختيارات عسيرة في ما يتعلق بالعجز. وقد امتنع الرئيس أوباما عن المشاركة في سباق ولاية ويسكونسن، وآمل ألا يكون ذلك الموقف انتهازية سياسية صارخة من جانبه، بل يكون اعترافا منه بأن الحكومات عليها حقا أن تواجه التزاماتها التي لا تستطيع الوفاء بها. وقد كان ميت رومني مباشرا بدرجة أكبر، ولكن حتى هو لم يتطرق في حملته إلى الاختيارات التي سيقوم بها. وفي حال فوز ووكر، فسوف يتعين على مرشحي الرئاسة أن يكونا واضحين قبل انتخابهما بقدر ما كان ووكر واضحا عقب انتخابه.

لقد بدأ عصر الاستدانة بنقلة ثقافية، وسوف يتطلب الأمر نقلة شعبية تدريجية من أجل وضع حد لذلك العصر. وربما يكون التصويت الأخير في ولاية ويسكونسن هو اللحظة التي تبدأ فيها الأمة أخيرا التخلص من انغماسها في الديون منذ عقود طويلة.

* خدمة «نيويورك تايمز»