من الثورة إلى المأزق السياسي

TT

الانتخابات الرئاسية في مصر لم تحسم الأمور ولا أرست للثورة قواعد الحكم، ولا لمصر ركائز الاستقرار. وذلك على الرغم من أن الفائز فيها كان مرشح الإخوان المسلمين. فماذا لو كان العسكري أحمد شفيق؟

غريب جدا، بل مذهل هذا الذي تشهده الساحة السياسية المصرية من مفاجآت وتخبط وضياع بعد عام ونصف من اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام الحكم فيها. مجلس نيابي ينتخب في ظل دستور غائب ثم يعتبر غير شرعي بحكم قضائي؟ وانتخابات رئاسية تجري في غياب دستور يحدد صلاحيات رئيس الدولة ودوره في السلطة التنفيذية. وأحكام قضائية تحترم وتنفذ هنا، وأخرى ترفض ويتظاهر الناس ضدها، هناك. مجلس حكم عسكري يمارس صلاحيات رئيس الدولة في مرحلة انتقالية ثم يحتفظ بالسلطة التشريعية بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية. نصف الشعب المصري يقترع لأحمد شفيق، خوفا مما قد يترتب عن احتكار «الإخوان» والإسلاميين للحكم من انتقاص لحقوق المرأة وغير المسلمين في مصر، حتى إذا ما فاز مرشح الإسلاميين بالرئاسة، كان أول تصريح له طمأنة الذين صوتوا لخصمه بأنه إنما سيتبع في الحكم «نهجا ديمقراطيا وطنيا مدنيا»، أي ما يقول به خصمه ونال ملايين الأصوات المؤيدة له.

احتل «الإخوان» والإسلاميون أكثرية مقاعد مجلس الشعب. وهمش دور شبان الثورة والأحزاب السياسية المدنية القديمة والجديدة. وجرت انتخابات رئاسية فاز فيها مرشح «الإخوان» في دورتين.. فلماذا، إذن، انفجر الخلاف، فجأة، قبيل وبعد الانتخابات الرئاسية بين «الإخوان» والعسكر؟ هل السبب هو حل مجلس الشعب؟ أم الإعلان الدستوري الجديد؟ أم اللجنة المكلفة وضع الدستور الجديد؟ أم أنه، بكل بساطة، إصرار «الإخوان» وغيرهم من صانعي الثورة المصرية، والمستفيدين منها، على القبض على السلطة بكاملها، وتمسك العسكر بالدور والامتيازات التي يتمتعون بها منذ ستين عاما؟

الذين قاموا بالثورة، من إسلاميين وعلمانيين وديمقراطيين وحزبيين، من حقهم أن يتسلموا الحكم. ولكنهم لم يتفقوا في ما بينهم على تقاسم ثمار الثورة، وكان ذلك من أهم أسباب الوصول إلى ما وصلت إليه البلاد من تأزم سياسي، وإلى وقوع المجلس العسكري والقضاء المصري والمؤسسات الأمنية والإدارية في هذه الفوضى السياسية وهذا المأزق الدستوري. ومن هنا، كان اقتراع نصف الشعب المصري لأحمد شفيق، مؤملا من وصوله توفير الأمن والاستقرار، لا سيما أن أوضاع مصر الاقتصادية والسياحية قد تراجعت بعد الثورة، ولم يقم الحكم بأي خطوة توفر للشعب فرص عمل جديدة وحلولا للمشاكل الحياتية التي يعانيها، وما أكثرها!

ماذا سيحدث الآن، بعد الانتخابات الرئاسية وحل مجلس الشعب والإعلان الدستوري الجديد؟ المجلس العسكري أكد ويؤكد أنه سيسلم السلطة التنفيذية إلى رئيس الجمهورية الجديد.. ولكنه يتحفظ بالنسبة للسلطة التشريعية. فهل كان احتفاظه بها هو الحل الأنسب؟ وهل سيقبل «الإخوان» والقوى السياسية الثورية الأخرى بهذا «الإخراج الدستوري» الفريد من نوعه؟

إن انسحاب المجلس العسكري من الحكم والسلطة بات مطلبا شعبيا داخليا ورغبة دولية. غير أن هذا الانسحاب، سواء تم غدا أو بعد غد، لن يحل المشاكل الدستورية والسياسية «العويصة» التي وقعت فيها مصر في الأسابيع الأخيرة. البعض يرى أن ما يحلحل الأمور هو تأليف حكومة «اتحاد وطني» تضم عدة أحزاب وممثلين عن شباب الثورة. وآخرون يقترحون تأليف حكومة حيادية من شخصيات غير حزبية، تتولى الحكم في الفترة الانتقالية القادمة وريثما يوضع الدستور الجديد وتجرى انتخابات نيابية جديدة. وقد يستغرق ذلك عدة أشهر أو سنة بكاملها. وهنا، يبرز السؤال الحقيقي وهو: هل يستطيع الشعب المصري تحمل هذه النزاعات السياسية التي تصرف الحكم، أيا كان الحاكم، عن الاهتمام الجدي بالمشاكل الحياتية الاقتصادية والاجتماعية؟

إن حكم «الإخوان» والإسلاميين في مصر لن يؤدي إلى قيام دولة دينية على غرار جمهورية إيران الإسلامية، ولكنه سيؤثر في علاقات مصر بمحيطها العربي وبالمجتمع الدولي، ولا سيما بالوضع الراهن للعلاقات مع إسرائيل منذ كامب ديفيد. أما العقبة الداخلية التي سيصطدم بها «الإخوان» والإسلاميون، فهي علاقتهم بالقوات المسلحة وامتيازاتها ووزنها في الدولة المصرية، وسوف يؤدي ذلك إلى تغيير التحالفات السياسية الداخلية، بل والخارجية والإقليمية أيضا.

في المطلق، لن ترجع مصر إلى الوراء بعد الربيع الثوري الذي شهدته، ولكنها، لسوء الحظ، ستعاني أزمات وتمر بمطبات كثيرة قبل أن تتحول إلى دولة ديمقراطية مزدهرة. فالعلة الحقيقية التي يعانيها المجتمع المصري - وأكثر المجتمعات العربية - ليست في نظام الحكم، بل هي أعمق من الشكليات الدستورية التي تتقاتل القوى السياسية حولها.