نزعة بوتين الستالينية وراء هذا الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية!!

TT

رغم مرور كل هذه الفترة، منذ انفجار انتفاضة الشعب السوري في نحو منتصف مارس (آذار) العام الماضي، بقي الجدل محتدما ولم يُحسم حول الدوافع الحقيقية لوقوف روسيا هذا الموقف «المخزي»، الذي لا يزال مستمرا ومتواصلا رغم كل المبادرات الأميركية والغربية التي فشلت في تغييره، وحول هذا الانحياز إلى الرئيس السوري بشار الأسد في حربه ضد شعبه التي اتخذت بعد خطابه التصعيدي الأخير طابع الإبادة الجماعية المتنقلة في كل المدن والمناطق السورية.

في كل مرة تتردد إشادات بموقف روسيا «الإيجابي»!! وفي كل مرة يخيب سيرغي لافروف ظن الذين تحدثوا عن «ظهور» متغيرات في الموقف الروسي وعن إمكانية نجاح خطة المبعوث العربي والدولي كوفي أنان عندما يجدد التأكيد بالأقوال والأفعال على وقوف بلاده بكل ثقلها إلى جانب بشار الأسد ونظامه فتعود الأمور إلى نقطة الصفر وتزداد القناعة لدى الأكثر واقعية بأن فلاديمير بوتين، عندما كان رئيسا للوزراء وعندما عاد ليحتل موقع رئيس الجمهورية، يعتبر أن معركة الرئيس السوري هي معركته وأن هذا النظام الذي يعتبره القاعدة المتقدمة لبلاده في الشرق الأوسط لا يجوز التخلي عنه لحساب الولايات المتحدة الدولة الكبرى التي أصبحت القطب الأوحد في العالم كله بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينات القرن الماضي.

كان الاعتقاد في البدايات أن هذا الموقف الروسي، الذي اختار الانحياز لنظام استبدادي دموي لجأ إلى العنف والحلول العسكرية والأمنية منذ اللحظة الأولى، هو مجرد مناورة لابتزاز العرب وخاصة عرب الخليج العربي وابتزاز الولايات المتحدة والحصول على بعض المنافع المالية وأن الأمور سيجري حلها في آخر الأمر بالترضيات والعطاءات وببعض التنازلات الأميركية المتعلقة بتدخلات أميركا في دول منظومة الاتحاد السوفياتي السابق والمتعلقة أيضا بجدار الصواريخ الذي أقامه الأميركيون بحجة مواجهة إيران وهو في حقيقة الأمر يستهدف روسيا ويستهدف مكانتها في ذلك الجزء من العالم.

ثم كان هناك اعتقاد بأن تغيير روسيا لموقفها هذا متوقف على إعطائها ضمانات مؤكدة بالحفاظ على مصالحها الحيوية في سوريا أولا وفي الشرق الأوسط ثانيا وبما في ذلك قاعدتها البحرية في طرطوس، التي هي القاعدة الوحيدة لها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، في حال انهيار بشار الأسد وانهيار نظامه لكن ثبت أن موسكو وإن هي تريد كل هذا وتصر عليه إلا أنها تريد ما هو أبعد منه كثيرا وهو أن تكون ندا حقيقيا وفعليا للولايات المتحدة في إدارة شؤون الكرة الأرضية وكما كان عليه الوضع عندما كان هناك الاتحاد السوفياتي وكان هناك ستالين الذي فرض شروطه على أميركا وعلى الغرب عموما في مؤتمر يالطا الشهير بعد الحرب العالمية الثانية.

وأيضا وإلى جانب هذا كله فإن هناك من لا يزال يعتبر أن موقف بوتين ولافروف وكل هذه المجموعة الروسية هو سر الموقف الإسرائيلي وأن «اللوبي» اليهودي في روسيا، وهذا هو رأي بعض المحللين الروس، هو الذي يقف وراء هذا الموقف الروسي البائس وهو الذي يتابعه ويحافظ عليه والمعروف أن إسرائيل رغم تصريحات وزير دفاعها إيهود براك ووزير خارجيتها أفيغدور ليبرمان لا تزال مع الحفاظ على هذا النظام السوري الذي جربته على مدى أكثر من أربعين عاما والذي هي حريصة كل الحرص على الإبقاء عليه ما دام أن بديله لا يزال غير معروف لها وما دام أن هناك احتمالا بأن هذا البديل قد يكون الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي المتطرفة ومن بينها «القاعدة»!!

وحقيقة أن هذا الموقف المائع الذي تتخذه الولايات المتحدة وتتخذه بعض الدول الأوروبية ومن بينها ألمانيا أنجيلا ميركل يستند إلى هذا الفهم الإسرائيلي نفسه فقرار إسرائيل بالنسبة لهذه المسألة لا يزال لم يصل إلى القناعة بضرورة التحول إلى الاتجاه الآخر وخاصة أن الإسرائيليين باتوا يشعرون بخطورة كل هذه التحولات التي تشهدها المنطقة بعد انفجار ثورات ما يسمى «الربيع العربي» وأن ما يعتبرونه جبهة إرهابية قد تم فتحها ضدهم من سيناء التي شهدت في الفترات الأخيرة عددا من العمليات العسكرية ضد أهداف إسرائيلية كان آخرها قبل أيام قليلة.

لكن ومع أن كل هذا وارد وصحيح فإنه ليس الأساس بالنسبة لهذا الموقف الروسي المستغرب والمثير للكثير من التساؤلات إن من قبل الشعب السوري والمعارضة السورية وإن من قبل معظم الأطراف العربية التي لم تجد بعد تفسيرا يمكن اعتماده لهذا الانحياز المستهجن الذي لا يمكن تبريره وخاصة بعدما اتخذ قمع بشار الأسد لشعبه طابع الاستئصال الطائفي والإبادة الجماعية وبعدما فشلت كل محاولات حل هذه الأزمة وآخرها خطة أنان التي ماتت وشبعت موتا ولم يعد بالإمكان إنعاشها من خلال الحقن المنشطة التي يحاول اللجوء إليها الأميركيون وبعض الدول الأوروبية.

فالأساس هو أن بوتين الذي يحلم بولاية رابعة وخامسة.. وإلى الأبد في موقع رئاسة الجمهورية يريد أن يقنع الروس و«من لفّ لفهم» من شعوب دول منظومة الاتحاد السوفياتي السابق أنه هو الوحيد وليس غيره القادر على إنهاء صيغة القطب العالمي الأوحد لحساب عالم متعدد الأقطاب وأنه هو الوحيد وليس غيره القادر على إلزام الولايات المتحدة بالجلوس إلى مائدة المفاوضات والبيع والشراء في يالطا جديدة لتقاسم النفوذ معها إن بالنسبة لهذه المنطقة الشرق أوسطية الحيوية والاستراتيجية والهامة وإن بالنسبة للعالم بأسره وهذا قد سُمع منه شخصيا من خلال تصريحات متكررة قال فيها إنه لا يمكن القبول بعد الآن بأي إملاءات أميركية وإن مرحلة ضعف روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قد أصبحت منتهية وإن هناك الآن مرحلة جديدة تقتضي صياغة جديدة لمعادلات النفوذ في الشرق الأوسط وفي العالم كله.

وبالطبع فإن بوتين بعد التجديد له، قبل فترة، لولاية ثالثة أصبح يتصرف داخليا وخارجيا على أنه مجدد دور الاتحاد السوفياتي السابق على الخريطة الدولية وأن سيرغي لافروف يقوم بدور أندريه غروميكو وأنه من الآن فصاعدا لا يمكن القبول بأي إملاءات أميركية والمشكلة هنا أن الرئيس الروسي يسعى لتحقيق كل هذه الطموحات من خلال دماء أبناء الشعب السوري التي تنزف يوميا ومن خلال التمسك بنظام لا يمكن ضمان بقائه بعدما حصل كل هذا الذي حصل حتى وإن أقام الروس قواعد لهم حول العاصمة دمشق نفسها.

وهنا فإن هذا الذي يفعله فلاديمير بوتين لإثبات زعامته العالمية الموهومة يذكر بتلك الحادثة الشهيرة عندما ترأس نيكيتا خروشوف، وكان في ذلك الحين يشغل موقع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، وفد بلاده إلى الدورة العامة للأمم المتحدة في عام 1960 حيث لم يجد ما يعبر من خلاله عن أنه زعيم عالمي سوى خلعه لحذائه وهو جالس في مقعده أمام المنصة الدولية و«الدَّق» به على تلك المنصة في تصرف استعراضي مظهري أساء إليه وإلى حزبه وحكومته وبلده لم تستفد منه إلا الدعاية «الإمبريالية»!! الغربية المضادة.

إن هذا هو سبب اتخاذ فلاديمير بوتين لهذا الموقف المستغرب الذي بقي يتخذه تجاه الأزمة السورية المتصاعدة والمشكلة هنا هي أن الرئيس الروسي ربما لا يعرف أن هذه المعادلة الكونية التي يسعى إليها والتي عنوانها: «عالم متعدد الأقطاب كبديل لعالم القطب الواحد» تحتاج إلى معطيات سياسية واقتصادية وعسكرية لا تزال غير متوفرة لبلاده كما تحتاج إلى اصطفاف دولي غير هذا الاصطفاف الذي يعتبر نفسه قائدا له ولذلك فإن هذه الوضعية التي يتخذها سوف تصبح وبالا عليه وعلى تطلعاته وطموحاته عندما سيكتشف الروس كم أن «ستالينهم» الجديد قد حمَّلهم إثما تاريخيا سيبقى يطاردهم إلى الأبد عندما اختار أن تكون روسيا شريكا أعمى لنظام مستبد في ذبح أبناء شعبه.