السعودية.. الحزن والتماسك

TT

في عام 1979 اقتحم متطرفون سعوديون الحرم المكي الشريف، احتلوا منارات المسجد ليحكموا سيطرتهم على المداخل، أمطروا بوابل من الرصاص كل من يحاول الدخول أو الخروج منه، كانت ثلاثة أيام عصيبة هي المدة الزمنية لاحتلال بيت الله الحرام، لحساسية المكان المقدس واكتظاظه بالمصلين، من سوء الحظ أن إحدى سيارات الأمن كانت في مرمى نار المعتدين، فاضطر سائق السيارة إلى التوقف أسفل منارة المسجد، مصدر إطلاق الرصاص، تفاديا لنيرانهم، وصل خبر السيارة إلى وزير الداخلية الراحل، الأمير نايف بن عبد العزيز، شعر بقلق كبير على رجال الأمن المحتجزين أسفل المنارة، وأعطى أمره بتوجيه دبابة عسكرية إلى مكان احتجاز السيارة لتشغل مطلقي الرصاص، فتتاح فرصة لتحرك السيارة بعيدا عن موقع الخطر، تم تنفيذ الخطة ببراعة، وانطلقت السيارة الأمنية إلى فندق محاذ للمسجد الحرام كان قد اتخذه الأمير نايف موقعا لغرفة عمليات للمراقبة ومتابعة الأحداث، تفاجأ رجال الأمن أثناء توقف سيارتهم أمام بوابة الفندق أن وزير الداخلية في استقبالهم أمام البوابة من الخارج، يقف مبتسما ومرحبا مهنئا بسلامتهم، كان أحد رجال الأمن قد عاد للتو من بلد يعاني من اضطرابات داخلية، فقال له الأمير نايف مداعبا: من الرصاص وإلى الرصاص، فرد عليه رجل الأمن: الرصاص واحد والعمر واحد. هكذا كان ولي العهد نايف بن عبد العزيز، رحمه الله، صلبا، حازما، قويا، لكنه كان إنسانا، ويعرف كيف يقرأ الرجال، من نجاحاته أن تشرب فريقه في وزارة الداخلية فكره ومفهومه الخاص في فرض الأمن والاستقرار كأولوية، لذلك كان اختيار الأمير أحمد بن عبد العزيز غير مستغرب، فهو يتحلى بالصفات الشخصية ذاتها، ولن تكون كل الملفات الأمنية صغيرها وكبيرها غائبة أو حديثة التفاصيل عليه لأنه قد أحاط - مسبقا - علما بتفاصيلها.

لم تمض أيام العزاء الثلاثة على وفاة الأمير نايف، ونظرا لحساسية المواقع التي كان يتولاها؛ ولاية العهد، ووزارة الداخلية، ونائب رئيس مجلس الوزراء، حتى ابتدر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز باختيار أخيه الأمير سلمان خلفا لولاية العهد، وهو اختيار توقعه السعوديون، ليس فقط لتراتبية الأمير سلمان في الأسرة، بل لأنهم يرونه أهلا لهذا الموقع الكبير.

الأمير سلمان رجل تاريخ ومجتمع وسياسة وإعلام، أربعة علوم هي مكونات صناعة الشخصية القيادية الرائدة، لأنها تجمع مسؤوليات الداخل المحلية بالمسؤوليات الخارجية، في وقت أضحت حنكة المسؤول السياسي ودرايته بأبناء وطنه هي صمام الأمان وذروة سنام الاستقرار.

ولأن الأمير سلمان كان أميرا للرياض لمدة قاربت على الخمسين عاما فقد بنى لنفسه مكانة كبيرة في نفوس السعوديين بشكل عام، وعند أهل الرياض بشكل خاص، رجالهم ونساؤهم، الذين يعرفونه أو يسمعون عن آرائه وتعليقاته من مجالسه الاجتماعية والثقافية، كما أن الأمير سلمان أرسى مفهوم الشراكة المجتمعية بشكلها المتحضر، حيث تولى وأشرف على عمل لجان رعاية اجتماعية وصحية وتعليمية لا تعد ولا تحصى، داخل المملكة وخارجها. وللأمير سلمان مواقف كثيرة في تبادل الرأي، والتعليق على ما يكتب في الصحافة، فكان يطرح رأيه أو تعليقه لا بصفته أميرا، بل بصفته قارئا ومثقفا، رغم سلطته ومكانته الاجتماعية وقدرته على فرض رأيه بدلا من مبادلته.

بالتأكيد أن مهمة وزارة الدفاع التي تولاها الأمير سلمان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 خلفا لشقيقه الأمير سلطان (رحمه الله) لم تكن بمهمة عادية، خاصة في ظروف صعبة كالتي تعيشها المنطقة العربية منذ عام ونصف العام، وقد زادت مهام الأمير سلمان ثقلا أكبر بتعيينه مؤخرا وليا للعهد، ولكن ما يعزي السعوديين ويمنحهم السلوان في وفاة الأمير نايف هو أن خلفه في ولاية العهد؛ الأمير سلمان، يمسك بخيوط إدارة ولاية العهد على نحو مثير للاطمئنان، وأهمها على الإطلاق ثقة المواطن السعودي في الخبرة التراكمية لولي العهد الجديد، نتيجة معرفة الناس بشخصه معرفة قريبة، والتي نعزوها إلى مجالسه التي كانت مفتوحة الأبواب أمامهم.

[email protected]