الحوار اللبناني.. ومنطق السلاح

TT

سوريا تتفتت، العراق يتشرذم، مصر تحترق... ولبنان ينهار بانتظار أن يحل «حوار الطرشان» بين سياسييه معضلته المزمنة: تعايش طوائفه بعضها مع بعض بأقل حساسية ممكنة، بعد أن استحال عيشها بفضل انسجام ممكن.

مجرد العودة إلى طاولة «الحوار الوطني» إقرار ضمني بأن اللبنانيين ما زالوا يفتشون عن قاسم مشترك قادر على جمعهم في إطار «دولة» واحدة، ولا نقول «وطن» واحد في غياب الولاء الواحد للأرض الواحدة.

صحيح أن ديمقراطية لبنان، أو الأصح نظامه السياسي المبني على التمثيل الديمقراطي - لم يكن وليد الإرادة الشعبية بقدر ما كان وليد الحاجة العملية إلى آلية حكم تعكس تعدديته المذهبية، وتحول، في الوقت نفسه، دون هيمنة طائفة واحدة على الطوائف السبع عشرة الأخرى.

مؤسف أن اللبنانيين لم يعرفوا كيف يستغلون «ديمقراطية الصدفة» التي ورثوها عن الانتداب الفرنسي ليبنوا دولة يتساوون فيها بالحقوق كما بالواجبات، ويلجون القرن الحادي والعشرين من بابه الواسع.

واللافت على هذا الصعيد أن أول جهة عملت على ضرب معادلة التوازنات الطائفية والسعي لمصادرة السلطة بشكل حصري كانت الجهة التي كتب لها الانتداب الفرنسي كيان لبنان ووجوده، أي الجهة المسيحية التي خاضت مع الطوائف الأخرى في سبعينات القرن الماضي، معركة «المارونية السياسية» – سياسيا في بادئ الأمر وميليشيويا فيما بعد.

فشل «المارونية السياسية» في الهيمنة على الطوائف اللبنانية الأخرى، على الرغم من سيطرتها على معظم «مفاتيح» السلطة ومقاليد الحكم، يعود إلى أكثر من عامل واحد محلي وإقليمي. ولكن فشلها أكد تجذر التقاطع القائم بين نظام لبنان السياسي وتعدديته الاجتماعية، ما يسمح بالاستنتاج أن لا وجود للبنان ديمقراطي خارج تعدديته المذهبية والإثنية.

كان يفترض بتجربة «المارونية السياسية» أن تشكل عبرة لكل الطوائف اللبنانية: لا يحكم لبنان من طائفة واحدة كما لا يحكم من حزب واحد. وكان يفترض بتجربة «المارونية السياسية» أن تشكل محطة تاريخية لبناء «لبنان الدولة». ولكن تعاقب انتهاء معركة «المارونية السياسية» مع بداية الوصاية السورية على لبنان أدخل خللا آخر على معادلاته الطائفية، الهشة أصلا، إذ أطلق من عقاله تيارا سياسيا مشابها له يمكن تسميته «بالشيعية السياسية».

أوجه التشابه بين «الشيعية السياسية» و«المارونية السياسية» أكثر من أن تحصى - سواء أكان على صعيد أجندتهما الداخلية أو «علاقاتهما» الخارجية - وإن كان من الإنصاف التنويه بالخطاب القومي للتيار الشيعي الذي افتقده التيار الماروني المتشدد في زمانه. ولكن، مع التسليم بقناعة الكثيرين بأن لبنان لا يزال أحد أكثر الدول العربية ديمقراطية يبقى السؤال الملح: لماذا يوظف اللبنانيون - أو بعضهم على الأقل - ديمقراطيتهم للانقضاض عليها فيما تسعى شعوب «الربيع العربي» لبلوغ شكل من أشكال الديمقراطية في بلادها، على الرغم من كل العقبات التي تواجهها يوميا؟

وهل يعقل أن تغيب عن أذهان اللبنانيين، إلى أي شريحة أو معتقد انتموا، أن انتفاضات «الربيع العربي» ليست حدثا سياسيا بقدر ما هي استحقاق اجتماعي تأخر موعده إلى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين «بفضل» الديكتاتوريات العربية والشعارات البراقة التي توسلتها للتحكم برقاب العباد، وفي مقدمتها «لا صوت يعلو على صوت المعركة»؟

أهمية العودة، اليوم، إلى طاولة الحوار الوطني في لبنان تعود إلى توقيتها بقدر ما تعود إلى جدول أعمالها، فهي تتم في وقت يعلو فيه صوت السلاح في سوريا على صوت الحريات، وتتصدى فيه بنادق ميليشيات «الشبيحة» لكل بارقة ديمقراطية في بلادها... فهل يستخلص المحاورون اللبنانيون أن مبرر السلاح الحاكم أو المتحكم - أكان في يد الجيوش أم الميليشيات - لم يعد تحرير فلسطين بل القضاء على الحريات الديمقراطية العربية؟