روسيا ماذا تريد.. أم الولايات المتحدة؟

TT

السياسة الخارجية لبلد ما كانت وما زالت تبعا للمصالح القومية لذلك البلد سواء أكانت مصالح قريبة أم بعيدة الأجل، فالعمل الخيري مفقود والأخلاق والتضحية في سبيل الآخرين قيم غائبة تماما في عالم السياسة الخارجية.

هناك خمسة عوامل رئيسية تؤثر في قرارات القادة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية في كل بلد، حسب ما بينه البروفسور البريطاني الراحل والخبير في شؤون الشرق الأوسط فرد هاليدي.

أولها: الأمن القومي للدولة وما ينضوي تحته من أمن غذائي ومائي واقتصادي، فالمتطلبات الاقتصادية للدولة تحدد بشكل كبير طبيعة سياستها الخارجية، وهذا ما يفسر السياسة الخارجية الأميركية تجاه المناطق الغنية بالنفط. فالسيطرة على النفط ومنابعه يعزز الأمن القومي الأميركي ويكرس الهيمنة الأميركية على العالم.

ثانيا: المصالح البيروقراطية لمكونات الدولة، فالدولة تحتوي على مؤسسات مدنية وعسكرية، عامة وخاصة، ولكل منها مصالحه الخاصة والمتعارضة أحيانا تدفع باتجاه تحقيقها من خلال عوامل ضغط تمارسها على الحاكم.

ثالثا: الرأي العام في البلد، وأهمية الرأي العام في السياسة الخارجية تتمدد وتنحسر تبعا لبنية النظام الحاكم وطبيعته وشرعيته الشعبية. وإذا كان الحاكم لا يعبأ ولا يهتم كثيرا برأي الشعب إلا أنه في النهاية لا يستطيع أن يتجاوز حدودا يرسمها الرأي العام. وهذا هو السبب الرئيسي للتدليس على الشعوب وإخفاء الحقائق والتظاهر بما هو غير الواقع بل عكس الواقع تماما في بعض الأحيان. لذلك، كان لا بد من السيطرة على الإعلام وتجييشه حسب المصالح لا حسب الحقائق. وهنا، يخطر على البال مباشرة كيف عملت الإدارة الأميركية في عهد جورج بوش الابن بجهد منقطع النظير على تسويق رواية أسلحة الدمار الشامل من أجل تبرير احتلال العراق، أمام الرأي العام.

رابعا: قدرة الدولة وقوتها. كل الدول تسبح في فلك العلاقات الدولية، وسلوك كل منها مع هذا الفلك ومع بعضها البعض مرتبط بقوة وقدرة كل منها، سواء أكانت قوة عسكرية أم اقتصادية أم طبيعية مثل الثروات والقوة البشرية والموقع الجغرافي. وبالتالي، فمقومات السياسة الخارجية لفرنسا مثلا تختلف عما هي عليه بالنسبة لبلجيكا، وكذلك الفرق بين كندا وروسيا، وأيضا بين أستراليا والولايات المتحدة، وأخيرا بين تونس ومصر.

خامسا: المبادئ والقيم والأعراف التي تتبناها الدولة أو كلاهما الدولة والشعب، فالآيديولوجيا قسمت العالم إلى قسمين خلال الحرب الباردة وتركزت التفاعلات الدولية في جلها حول الآيديوليوجيا، حتى استطاع الحلف الغربي هزيمة الحلف الشرقي وتفكيكه وغزوه آيديولوجياً، وهذا يمثل أكبر أنواع الهزيمة.

ويبقى عامل آخر يتعلق بالدول النامية والعربية خصوصا وهو التأثيرات الخارجية على هذه الدول من قبل الدول الكبرى التي تمتلك مفاتيح المنظمات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية. فالولايات المتحدة الأميركية مثلا تمسك بناصية السياسة الخارجية لكافة الدول العربية، وهذا ما يفسر عجز هذه الدول فرادى أو مجتمعة تحت مظلة الجامعة العربية عن إيجاد حل لأي أزمة عربية، ابتداء من احتلال القدس، مرورا باحتلال بيروت ثم غزو الكويت، وانتهاء بالأزمة الإنسانية الكبرى للشعب السوري.

كان لا بد من هذا التقديم النظري من أجل الوصول إلى تحليل علمي وموضوعي للسياسة الخارجية الروسية الحالية تجاه الثورة السورية ومعرفة ماذا تريد روسيا.

ولنبدأ بالأمن القومي الروسي، فسوريا لا تمثل بنظامها الحالي أي عامل تعزيز أو تكريس للأمن القومي الروسي، خصوصا إذا ما علمنا أن القاعدة الروسية في طرطوس لا تعدو كونها ورشة لإصلاح السفن، ولا تشبه بأي حال من الأحوال أي قاعدة أميركية موجودة حول العالم. وبالتأكيد، فإن زوال نظام بشار الأسد في سوريا لا يهدد الأمن الروسي في شيء، خصوصا أن المعارضة السورية لا تتبنى موقفا عدائيا مسبقا ضد روسيا، بل على العكس هناك قسم كبير من المعارضة السورية كان يعتد بروسيا وبصداقتها للدول العربية.

وسوريا في نفس الوقت لا تمثل أي احتياجات اقتصادية مهمة لروسيا، فحجم التبادل التجاري بين البلدين ليس ذا أهمية كبيرة. صحيح أن روسيا تمثل المصدر الأساسي للأسلحة السورية، إلا أن حجم هذه الصفقات لا يعتد به كعامل يمكن أن يفسر الموقف الروسي الحالي.

أما في ما يتعلق بالآيديولوجيا، فسوريا لا تشكل أي امتداد آيديولوجي لروسيا، خصوصا أن كلا البلدين اعتمد النهج الرأسمالي في الاقتصاد والسياسة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. ثم إن روسيا كثيرا ما يعتقد أنها تغلب مبدأ السيادة على الشرعية، بمعنى أنها لا تجيز التدخل الخارجي في الدول تحت أي ظرف كان. لكن، ما تفسير موافقة روسيا على التدخل الدولي بقيادة الولايات المتحدة في الصومال تحت القرار الدولي 794 لعام 1992؟ إذن، فالمبدأ مخدوش وغير ثابت ويستخدم عند المصلحة فقط.

أما في ما يتعلق بقوة روسيا وقدرتها، فإن انهيار الاتحاد السوفياتي قد سلب كثيرا من قدرة روسيا عالميا، وتحول العالم من ثنائي القطبية إلى عالم أحادي القطبية غير متوازن، إن كان في حالة توازن أصلا. وتشكل الولايات المتحدة الأميركية مركز هذه القطبية وإليها يعود الأمر كله في الشؤون الدولية. لكن تبقى روسيا دولة قوية وعظمى، إلا أنها لا تستطيع أن تفرض إرادتها على العالم كما تفعل الولايات المتحدة، وخير مثال على ذلك هو أن الغزو الروسي لجورجيا (الدولة الصديقة للولايات المتحدة) عام 2008 لم تستطع روسيا أن تمده أكثر من شهرين وانسحبت بسبب الضغط الدولي، في حين أن الولايات المتحدة الأميركية غزت العراق (الدولة الصديقة لروسيا) واستمرت لسنوات ولم تعبأ بأي ضغط دولي، بل كان الضغط الشعبي هو مصدر القلق. والحديث عن يوغوسلافيا وضربها وتقسيمها والقبض على ميلوسفيتش لهو أعظم وأدهش. ثم إن شبكة العلاقات الدولية للولايات المتحدة أعقد بكثير وأشد وطأة على العالم بأسره مما هو عليه الحال بالنسبة لروسيا، وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط - تلك الساحة الأميركية بلا منازع. والذين يقولون بأن روسيا تدافع عن سوريا باعتبارها آخر معقل لها في منطقة الشرق الأوسط أعتقد أنهم تناسوا أن الأميركيين وليس الروس هم الموجودون دائما في الملفات السورية المهمة، فمثلا الولايات المتحدة هي من رعت مباحثات السلام بين سوريا وإسرائيل، وأن الأميركيين هم من بارك وأشرف على الانتقال السلمي للسلطة في سوريا من حافظ الأسد إلى ابنه بشار الأسد، وأن الخدمات الأمنية السرية كانت سوريا تقدمها مجانا للولايات المتحدة وليس لروسيا.

علاوة على ما سبق، فإن الموقف الروسي تجاه ليبيا أفقدها الكثير من المصالح والنفوذ في ذلك البلد، وسيكون الأمر نفسه في ما يتعلق بسوريا مستقبلا. وبما أن روسيا ما زالت تمثل الأب الروحي للمذهب الاشتراكي، فإن موقفها من الوضع في سوريا سوف يؤثر بشكل كبير على مستقبل الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في المنطقة العربية. ولو أن روسيا فعلا خُدعت في الملف الليبي كما يتم الإيهام بذلك، لكان حريا بها أن تكون أول من يساعد الشعب السوري في إسقاط نظام بشار الأسد واستحواذها على أعظم المنافع وأكبر قدر من النفوذ في سوريا مستقبلا.

وبالتالي، فإن عجز أي عامل مؤثر في السياسة الخارجية عن تفسير الموقف الروسي تجاه الثورة السورية يجعلنا نظن أولا أن روسيا تريد في هذه المرحلة الاستفادة القصوى من النظام السوري المتهالك سواء من خلال ثمن المواقف السياسية أو من صفقات السلاح الباهظة، مثلها في ذلك مثل تلك المخلوقات التي تقتات على هياكل الكائنات الميتة. ويجعلنا نعتقد ثانيا أن هناك موقفا دوليا وأميركيا بالتحديد متخفيا وراء الموقف الروسي، خصوصا عندما نرى أن الولايات المتحدة لم تلقِ بثقلها الدولي لصالح مسألة أخلاقية تتعلق برفع المعاناة عن الشعب السوري كما فعلت وألقت بكامل ثقلها في قضية غير شرعية وهي احتلال العراق. وهذا في النهاية يقودنا إلى السؤال الأهم، وهو: الولايات المتحدة ماذا تريد؟