هكذا «حُجب» حَجب الثقة عن المالكي!

TT

بفضل السياسيين العراقيين، اختلطت علينا ألوان الطيف السياسي، وفقدنا القدرة على فهم المعادلات التي يتحدث عنها نواب البرلمان. ومع كثرتهم، فإنهم يتسابقون لإطلاق تصريحات معظمها بلا اختصاص وبلا معرفة. أسأل بعضهم في مجال السياسة: ماذا عن الرفيق فلان؟ يردون عليّ بأنه يطمح إلى جعل رصيده خمسين مليون دولار! ولا أقصد بالرفيق صلته البعثية، لأنه لم يكن بعثيا.

وبعد أن اختلفت مصالح البعض، رُفع شعار حجب الثقة عن رئيس الحكومة، فوقع أصحاب المشروع في مطبات، أعان الله المخلصين منهم عليها. وقلنا من البداية إن المالكي باق حتى نهاية ولايته، ولا نجاح «للثورة الدستورية» إلا بقدرة قادر. وخرج علينا مبررو الفشل متذرعين بالدورين الأميركي والإيراني، كأن هذين الموقفين لم يكونا معروفين. والحقيقة التي بقيت مستترة هي أن إيران لم تمارس ضغطا «حاسما» لمساندة المالكي هذه المرة، بقدر ما نجح هو بمناورات تتعلق بالنفط وكركوك ووحدة العراق.. ومعظم الذين التقيتهم من شخصيات عربية سنية، ومنهم برلمانيون، كانوا منحازين إلى جانب المالكي، ولم أتأكد إن كانوا مستفيدين منه ماديا أم لا! وقد تميز سياسيو العراق الجديد عن كل سياسيي العالم بربط كل شيء بالمال! وباستثناء نواب التيار الصدري، لم «يجاهر» أحد من النواب الشيعة بموقف متعاطف مع مشروع حجب الثقة.

ولفت انتباهي وجود شعور لدى بعض من كنت أعرفهم من معارضي المالكي من سياسيي بعد 2003، بوجود مؤامرة منظمة لتأمين ظروف لتفكيك العراق. وسمعت تفسيرات تدل على وجهات نظر ليست متطابقة. ومع أن كثيرين يتحدثون عن أن العراق رقم غير قابل للقسمة، فهناك آخرون (من كرد وعرب) استعاروا جزءا من عبارة «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وكلما سمعوا شيئا عن «قدسية» الوحدة الوطنية العراقية، يقولون «أعوذ بالله». وفي بعض المواقف، ظهر تقارب اضطراري بين المالكي وبعثيين! حيث يشعر قسم من البعثيين (وليس حزب البعث) بأن مجيء بعض الأطراف قد يحرمهم من حالة الإفادة المتبادلة مع المالكي، الذي اعترض كثيرون من خصومه اليوم على إلغاء محاكمة رموز النظام السابق وإطلاق سراح عشرات منهم، وعلى عدم التزامه بقرارات الاجتثاث.

ومع أن قيادات كردية حرصت على تجنب الدخول بإشكاليات كركوك في حوارها مع من التقت معه مصالحها في الإطاحة بالمالكي، فإن حساسية عرب كركوك تجاه مصير رؤيتهم بقيت كما هي (وكل نوابهم من السنة)، لذلك وقفوا من البداية ضد حجب الثقة على قلة أصواتهم.

مشكلة المالكي مع الأكراد هي في عدم التزامه بمطالبهم، حتى لو تطلبت الظروف التكتيكية التوقيع عليها. ومشكلته مع العرب السنة تكمن في أنه يقترب منهم عند الحاجة ويبتعد عندما تتغير المعطيات. ومشكلته مع الدول العربية تعمقت بسبب النفوذ الإيراني في العراق. والحقيقة الدامغة هي أن إدارة الحكم في المشرق العربي لا يمكن أن تمر بسلام، إذا ما غاب الدور العربي مقابل النفوذ الإيراني. والعراق بقي منذ الرسالة الإسلامية عربيا. أما مشكلته مع الشيعة فتتعلق بالنفوذ والتصادم الحزبي. ومع هذا، فلا يزال هو الرقم الأول الذي يمتلك عناصر القوة.

وتتهم أطراف حجب الثقة المالكي باختلاق ملفات أمنية ضد خصومه السياسيين. ومع عدم إنكار حقهم في مشروعية الادعاء والتحقق، فقد كان بعض خصومه سباقين في هذا، ووجهوا وحرضوا ممثلين لهم في السلطة لممارسة هذا الدور، قبل أن يصل المالكي إلى رئاسة الوزراء، واستخدموا المادة «4 إرهاب» بشكل ظالم وباطل وكيدي أيضا، التي تسمى اليوم عند العرب السنة «المادة 4 سنة».

ويمتلك المالكي قدرة لا يُستهان بها من المناورة لكبح اندفاعات قسم من خصومه، وتفتيت مواقف بعضهم. وقد مر أسبوعان على عودة البرلمان، ولم يتقدم خصومه خطوة نحو حجب الثقة، بينما كان العراقيون يتوقعون طرح الموضوع في أولى جلسات البرلمان! مما جعل التصريحات «الثورية» تفقد مشاعر الاهتمام.

وكما أوردت في مقال سابق، فإن عوامل المقارنة والتحليل تشير إلى أن المالكي باق إلى نهاية ولايته، حتى لو حجبت الثقة عنه، إلا إذا حدثت متغيرات من وزن آخر. وبصرف النظر عن النتائج، فما حدث كان درسا مفيدا للجميع، عسى أن ينفع في ظهور مفاهيم أخرى تتسم بالشفافية والإنصاف.