إصرار انتحاري على «تحالف الأقليات»

TT

«فكِّر قبل أن تتكلم، واقرأ قبل أن تفكر».

(فران ليبوويتز)

يوم أول من أمس نقلت وكالات الأنباء من مدينة الديوانية في جنوب العراق «تحذيرا» من وزير النقل العراقي هادي العامري إلى تركيا من «أي تجاوزات ضد سوريا وشعبها». وحسب الوكالات، فإن الوزير العامري، الذي كان يخطب في ذكرى ثورة عام 1920 العراقية، قال إن «سبب ما تتعرض له العملية السياسية في العراق من أزمات معروف وكارثي، وهو من أجل تمرير المؤامرة في سوريا». ومن ثم تابع - لا فُضّ فوه - «أتعجب من الدول العربية.. هل ماتت الغيرة فيهم؟ اليوم تركيا تهدد وتتوعد بلدا عربيا هو سوريا، والجميع لم يتحرك وسكت عن الموقف، ولو أن إيران هددت؛ هل يسكت هؤلاء؟ نحن نقول للأتراك: لن نسكت عن تجاوزكم على سوريا، ولن نسمح لأي بلد أن يتجاوز على بلد عربي».

شخصيا، لا بد لي من الاعتراف بأنني لست ملمّا بالتاريخ النضالي القومي للوزير العامري، باستثناء أنه الأمين العام لـ«منظمة بدر»، الجناح العسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي الشيعي، كما أنه عضو في مجلس النواب العراقي ويعد من المقربين من القيادة الإيرانية. ومن ناحية ثانية، لا أزعم أنني على اطلاع على التاريخ الصحي والنفسي للسيد الوزير، لكنني أميل إلى أنه ينسى ويسهو، وهذا ما لم يكن انتقائيا في تعريف النضال والقومية، مع أن الانتقائية لا تليق بـ«مشرع» في الأرض التي ظهرت فيها «شرعة حمورابي» أول «شرعة» في تاريخ الحضارة الإنسانية.

السيد الوزير «نسي»، مثلا، أن العراق تعرض عام 2003 لهجوم عسكري «أجنبي» انتهى باحتلال «أجنبي» لم ينتهِ كليا حتى اللحظة. وما لم تخني الذاكرة، أحجم النظامان الإيراني والسوري يومذاك عن التصدي للقوات «الأجنبية» لمنعها من احتلال العراق.. بل إن ما حصل كان العكس تماما؛ إذ استفادت التنظيمات التي ينتمي إليها السيد الوزير وأركان حكومته، وانتقل قادتها من إيران حيث كان «الولي الفقيه» يصف الولايات المتحدة بـ«الشيطان الأكبر»، وحلوا معززين مكرمين في العراق المحتل «أجنبيا».. اللهم إلا إذا كان يعتبر القوات الأميركية من نسل كهلان بن قحطان!

هذا الكلام المؤسف ليس جديدا ولا مفاجئا، فالمنطق المريض الذي يعبر عنه أعم من أن يقتصر على سياسي عراقي محسوب على طهران.. إنه المنطق المريض نفسه الذي نسمعه ونعيشه يوميا من أعلى مواقع السلطة العراقية، بجانب قوى لبنانية وسورية وخليجية وغيرها، في تجاهل معيب لمجازر ترتكب في سوريا منذ 16 شهرا بحق شعب انتفض على نظام «وراثي» يحكمه أمنيا منذ خريف عام 1970.

إننا هنا، نعود مجددا إلى آفة «تحالف الأقليات» ضد ما يوصف بخطر «الأصولية الإسلامية السنية»، ولقد ازداد زخم الدعوات لهذا «التحالف» بالتوازي مع تصاعد الخطاب الديني في عالم عربي يشكل المسلمون السنة نسبة تقارب 75% من عدد سكانه، وفي ظل ترهل القيادات التقليدية - العسكريتارية على وجه الخصوص - وسقوط البديلين؛ القومي واليساري، ضحية للمحسوبية والعائلية والفئوية، ناهيك من تعجيل نهاية «الحرب الباردة» بهذا السقوط.

إن العالم العربي الآن، بعدما نجح «الإسلاميون» السنة في تولي السلطة التنفيذية في المغرب وتونس ومصر عبر صناديق الاقتراع لأول مرة منذ فجر «الربيع العربي»، أمام معادلة مهمة جدا على صعيد تعايش مكوناته، وطبيعة تفاعلها بعضها مع بعض، ومع القوى الإقليمية ذات المصالح المتعارضة أحيانا والمتطابقة أحيانا أخرى على امتداد المنطقة.

الاستقطاب الحاد الذي شهدناه في مصر إبان الانتخابات الرئاسية في أعقاب انتصار الإسلاميين بـ«إخوانييهم» و«سلفييهم» في الانتخابات البرلمانية، لا شك، جزء من مشهد إشكالية التعايش. بل إن الإشكالية تصبح أكثر تعقيدا عند تفكير الراصد في حقيقة وجود خلافات عقيدية حتى بين التيارين الإسلاميين الكبيرين إزاء قضايا مصيرية كالدولة المدنية، وفصل السلطات، والالتزام بالمواثيق الدولية، وعلاقة سلطة على رأسها إسلاميون مع مواطنين كاملي الحقوق والواجبات من غير المسلمين. ومن ثم، قد يطرح البعض تساؤلا في محله عن دور «العسكر» بوصفهم «شريك سلطة» ضامنا لحقوق الأقليات والالتزامات الدولية.

في دول المغرب العربي، حيث الإسلام مظلة جامعة تظلل تعددية عرقية - لغوية، لا يصح استخدام مصطلح «تحالف الأقليات» ببعديه الديني والمذهبي، كما يستخدَم في بلاد الشام والعراق. وبالتالي، فإن تجربة الأقباط مع أول رئيس جمهورية إسلامي في مصر لا تنطبق على حالة الدول المغاربية، لكنها ذات وقع غاية في الأهمية بالنسبة لسوريا ولبنان حيث تحكم «الأقليات» مباشرة، والعراق حيث تحكم «الشيعية السياسية» التي تعكس مصالح جماعات داخل أغلبية محليا.. أقلية إقليميا.

كلام الوزير العراقي هادي العامري، الذي بدأت به هذه المقالة، يجسد في الواقع توجها سلبيا في العلاقة مع الأغلبية السنية بالمنطقة، وهو يبدو مستعدا للذهاب بعيدا في استنفار حلفاء؛ إقليميا، مكشوفين ومستترين لخدمة مشروع «تحالف الأقليات». والخطير في أمر هذه الحالة أن الحلفاء الإقليميين، المكشوفين والمستترين، في هذه الفترة الصعبة من عمر المنطقة لا يبدون منزعجين من إبقاء النزف السوري مستمرا، بل إنهم على استعداد لفتح جبهات ساخنة أخرى، بالذات في لبنان، حيث تعيش وتتداخل المكونات الدينية والمذهبية والعرقية - اللغوية ذاتها التي تعيش وتتداخل في سوريا.

ثم إن «العجز» الدولي عن وقف النزف السوري ما عاد بالإمكان ستره عبر الاكتفاء بالكلام عن «العناد» الروسي والصيني. صحيح أن الموقفين؛ الروسي والصيني، معاديان صراحة لشعب يقتله حاكموه منذ 16 شهرا، غير أن هذا مجرد جزء من مشكلة أكبر وأكثر تعقيدا؛ إذ كان مقلقا الصمت المريب إزاء الوضع في سوريا الذي طغى على زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإسرائيل، حيث بالكاد خرجت معلومات يعتد بها عن طبيعة الحوارات التي دارت بين الجانبين. كذلك كان غريبا أن ينقضي «اجتماع جنيف» أمس بمهل أخرى من دون سقف زمني لإنقاذ ما يستحق إنقاذه من مبادرة دولية - عربية واضحة وصريحة بالنص اسمها «مبادرة أنان»، لا سيما في ضوء ما يحدث على الحدود السورية - التركية.

في العراق، كما في سوريا ولبنان، على «الأقليات»؛ مسلمة وغير مسلمة، أن تقدر بصراحة وبحكمة تكلفة خيار المواجهة بالسلاح مع «السنية السياسية»، وعليها أن تتذكر، أيضا، أن «المعركة» التي عليها أن تكسبها في نهاية المطاف هي «معركة التعايش» لا «المواجهة» والغلَبة المستحيلة. بكلام آخر، على «الأقليات» كسب ثقة السنة واعتدالهم وانفتاحهم.. لا كسب حرب ضدهم يقول منطق الأمور إنها غير قابلة للكسب أساسا.

لقد علمنا تاريخ الإسلام أن الدولة الإسلامية في أيام ازدهارها ومنعتها كانت منفتحة ومتسامحة.. وفي المقابل، إبان فترة انحطاطها لجأت إلى التزمت والانكفاء والشعور بالحصار والاضطهاد.. وهي العوامل التي فتحت الباب أمام التشكيك وصولا إلى التكفير.

أمام «الأقليات» خياران لا ثالث لهما.