لماذا وصل الاقتصاد العالمي إلى طريق مسدود؟

TT

نحن نعيش في عالم النماذج المحطمة. ولنفهم سبب عدم قدرة قادة العالم على إصلاح الاقتصاد العالمي المنفجر، علينا إدراك أن النماذج الاقتصادية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة وأوروبا والصين تنهار. ورغم اختلاف النماذج، يحدث الانهيار بشكل متزامن ويتغذى كل انهيار على الآخر. والمحصلة هي تراجع تعافي الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي تتزايد فيه حدة التشاؤم وعدم اليقين. على سبيل المثال، كان النموذج الاقتصادي الأميركي يقوم على النمو الناتج عن الاستهلاك. ومنذ بداية ثمانينات القرن العشرين وحتى منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، كان ما يدعم الاقتصاد من أسهم وسندات وعقارات يزدهر، وهو ما شجع القطاع المنزلي على زيادة الإنفاق والاقتراض. واتجه الناس إلى شراء سيارات ومنازل أفضل وقضاء إجازات في أماكن أفضل لشعورهم بأنهم أصبحوا أثرياء. وأصبح الجميع قادرين على تحمل تكلفة الحياة الفاخرة والتطلع إليها. واستجاب قطاع الأعمال للاستثمار في بناء المراكز التجارية والمطاعم والفنادق والمصانع والمشاريع الرائدة.

بالطبع كل هذا أصبح ماضيا، حيث أدت الفقاعة الائتمانية إلى انخفاض قيمة المنازل والأسهم وعدد الوظائف. وذكر مجلس الاحتياطي الفيدرالي مؤخرا أن صافي قيمة القطاع المنزلي الوسيط، الذي يقع في المنتصف بالضبط، قد انخفض بنسبة 39 في المائة منذ عام 2007 إلى عام 2010 ووصل إلى 77.300 دولار وهو مستوى يقترب، بعد احتساب معدل التضخم، من مستواه في بداية التسعينات. وصافي القيمة هو الفرق بين ما يستحق للفرد وما عليه من ديون. وبعد شعور الأميركيين بالفقر وكونهم كذلك بالفعل، عمدوا إلى خفض إنفاقهم والحد من شرائهم المقتنيات. إنهم يحاولون تسديد ديونهم وإعادة تكوين ثروتهم.

وأظهرت دراسة حديثة أجراها المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية أن الانخفاض في ميزانيات القطاع المنزلي، أي ثروته، أدى إلى خسارة نحو ثلثي الوظائف التي تقدر بـ6.2 مليون في الفترة من مارس (آذار) 2007 إلى مارس 2009.

لا يمكن للاقتصاد الأميركي الاعتماد على تحقيق مكاسب كبيرة من المشتريات الاستهلاكية في إسراع وتيرة النمو. ما البديل إذن؟ هناك 3 بدائل؛ الأول هو زيادة الصادرات، والثاني زيادة استثمارات قطاع الأعمال، والثالث زيادة الإنفاق الحكومي. في ما يتعلق بالأول، يعوق ضعف الوضع الاقتصادي في بلدان أخرى التصدير. أما في ما يتعلق بالثاني، لن يقيم قطاع الأعمال استثمارات إلا في حالة ازدياد الطلب. وفي ما يتعلق بالثالث، الاعتماد أكثر من ذلك على الحكومة يعني زيادة عجز الموازنة، وهي سياسة تلقى مقاومة سياسية قوية.

على الجانب الآخر، تبين أنه بمجرد انهيار النموذج الاقتصادي الذي تتبناه، لا يصبح من السهل عليك بناء واحد جديد، حيث تظهر على الفور عوائق اقتصادية واجتماعية وسياسية. الأمر نفسه يحدث في أوروبا الآن، فالنموذج الأوروبي يقوم على فرضيتين؛ الأولى هي نجاح اليورو، وهو العملة التي تستخدمها 17 دولة، وقد ساعد اليورو على انخفاض أسعار الفائدة في الدول التي تستخدمه، مما أدى إلى ازدهار قطاع الإسكان وزيادة الاستهلاك في آيرلندا واليونان وإسبانيا فضلا عن دول أخرى. وأدى ذلك بدوره إلى الحاجة إلى زيادة الطلب على صادرات ألمانيا ودول أخرى، واستفاد الجميع. أما الفرضية الثانية فهي أن النمو الاقتصادي البطيء، لكن المستقر والثابت، كان كافيا لدعم دول الرفاهة، وساعدت عائدات الضرائب على بقاء عجز الموازنة عند مستوى يمكن السيطرة عليه.

وبمجرد انكسار الفرضيتين، كما حدث في أعقاب الأزمة المالية عامي 2008 و2009، يتعطل النموذج، فقد تراجع النمو الاقتصادي، وارتفع عجز الموازنة. وأدى قلق المستثمرين إلى اختفاء أسعار الفائدة المنخفضة في البلدان ذات الاقتصادات الضعيفة. وانهار التوازن الهش بين النمو الاقتصادي البطيء ودول الرفاهة. لقد قذف بأوروبا في بحر من الاضطرابات، حيث ينتقل قادتها من أزمة إلى أخرى. وثبت مرة أخرى أن البحث عن طريقة جديدة أمر محير ومثير للجدل. ويبدو موقف الصين أقل سوءا رغم أن السرية التي تفرضها الدولة تصعب عملية التكهن، فقد تبنت نموذج نمو يقوم على التصدير تدعمه برامج التحفيز الحكومية الدورية.

تكمن المشكلة في أن تراجع اقتصاد الولايات المتحدة وأوروبا، وهما أكبر سوقين، أدى إلى انخفاض الطلب على السلع الصينية وزاد من المعارضة السياسية للواردات المدعومة كما يزعم. وربما وصلت برامج التحفيز الصينية إلى نقطة تضاؤل العائدات. وتمثل الولايات المتحدة وأوروبا والصين مجتمعة نحو نصف اقتصاد العالم، لكنها ليست وحدها، فالبرازيل والهند وبعض الدول الكبرى الأخرى تكتشف أن سياساتها الاقتصادية بحاجة إلى إعادة نظر. كل الأشياء تعتمد على بعضها البعض، فلم يعد هناك في العالم مصدر كبير للنمو الاقتصادي القوي يحفز ويدعم الاقتصادات المتعثرة. وليس من المفاجئ أن يتوقع البنك الدولي نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.5 في المائة عام 2012 مقابل 4.1 في المائة عام 2010.

قد يتكفل الزمن بحل هذه المشكلات، فرغم كل شيء يسير الاقتصاد في دورات. وربما تسدد الديون في الولايات المتحدة، وتعود أسعار المنازل إلى الثبات والاستقرار، ويخرج قطاع الأعمال بمنتجات جديدة تزيد الاستثمار. وقد يتم التنفيس عن الطلب المكبوت في بلدان أخرى. مع ذلك تبقى حقيقة أن ما يحدث في الكثير من الدول من اعتداء على توقعات وممارسات ونماذج اقتصادية واجتماعية اعتدنا عليها منذ زمن يشير إلى أن العثور على طريق للتقدم قد يستغرق وقتا ويتطلب عناء وربما لا يكون غير حاسم. إذا كان الأمر كذلك، يصبح الطريق المسدود سببا آخر قائما بذاته للحنق والخوف.

* خدمة «واشنطن بوست»