لحظة تاريخية في مصر

TT

ربما لم تبتذل كلمة في اللغة العربية قدر كلمة «تاريخية» خاصة خلال نصف القرن الأخير، بعد أن وجدت حكومات وقيادات وثورات عربية كثيرة أن كل ما تفعله لا بد وأن يكون «تاريخيا»، وإلا كان فيه عوار من نوع أو آخر يمنعه من التسجيل في صفحات التاريخ. ولكن لا يوجد تعبير آخر يمكنه وصف ما جرى في مصر منذ إعلان نتيجة انتخابات رئاسة الجمهورية إلا بأنه «تاريخي»، وللملاحظة والتحفظ فإن اللفظ هنا لا يحمل محتوى إيجابيا أو سلبيا بالضرورة، ولكنه يُستخدم للدلالة على أهمية الحدث، وأنه لا بد من تسجيله في كتب التاريخ كلحظة فارقة، بين ما كان قبلها وما سوف يأتي بعدها اختلاف تام.

وصفت لكم أجواء ما جرى بالانتخابات في الأسبوع الماضي، ولكن ما جرى بعدها لم يكن أقل إثارة، منذ ساعة النطق بالنتيجة وفوز الدكتور محمد مرسي، مرشح حزب الحرية والعدالة، بمقعد الرئاسة. لاحظ، هنا حدثان تاريخيان: الأول أنه جرى انتخاب حر لرئيس لدولة مصر، التي لم تعرف رئيسا أو قائدا منتخبا انتخابا حرا في تاريخها المكتوب منذ أصبحت مصر دولة موحدة (منذ 5200 عام) وتاريخها غير المكتوب الذي كان قبل ذلك بألف وستمائة عام، عندما كان الإقليم المصري مكونا من وحدات سياسية متعددة. والثاني أن الرئيس جاء إلى الحكم من جماعة الإخوان المسلمين التي ظلت معارضة للدولة المصرية في كل أشكالها؛ الملكية والجمهورية، وعاشت معها في صدام مستمر، ليس فقط لأن الحكم لم يكن «إسلاميا»، كما تراه الجماعة، ولكن لأن «الدولة» الوطنية المصرية نفسها كانت خروجا على أمة الخلافة الإسلامية. والحقيقة أنه لم يُعرف عن «الإخوان» قط أنهم نظروا بعين لا ترضى عن مصر التي أسسها محمد علي والتي نجمت عن ثورة 1919، وتلك التي أتت من رحم ثورة 23 يوليو 1952. ولم تنظر الجماعة قط بعين الرضا إلى شخصيات مثل سعد زغلول أو مصطفى النحاس أو جمال عبد الناصر أو حتى أنور السادات، وبالتأكيد حسني مبارك.

جاء الرئيس من رحم جماعة لديها مشكلة فلسفية وأخلاقية وعملية مع الدولة المصرية، حتى ولو اعترفت بوجودها كضرورة لا بد من التعامل معها، بل وحتى الترشح من أجل رئاستها. وإذا كان من الممكن تلخيص ما جرى ما بين إعلان النتيجة وحلف الرئيس للقسم وقت كتابة هذا المقال؛ لكان أن الدولة المصرية لها طريقتها في استيعاب كل من يأتي في النهاية، والدولة هنا ليست سلطة فقط، ولكنها مجموع مؤسسات وتقاليد وأعراف ورموز وتاريخ أيضا، وبيروقراطية عريقة، ودولة عميقة أيضا تعرف كيف تضع الحدود والنواهي؛ لأن مصر «دولة» لها تاريخ وجغرافية، ومن يأتي إلى حكمها ليس عليه بالضرورة أن يتخلى عن أفكاره وقيمه حتى ولو كانت ثورية، ولكن عليه أن يتكيف ويكيف معه ما لديه من تاريخ هو الآخر. ويذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه عند وفاة الرئيس جمال عبد الناصر تم استدعاء إجراءات دفن آخر حكام مصر الذين ماتوا فيها، وهو الملك فؤاد حتى يجري التخطيط لدفن الزعيم الثوري.

هذه المرة لم تكن المسألة دفن رئيس فقط تم سجنه، ولكن مولد رئيس جديد جاء بثورة وانتخابات، ولكن الأولى راحت ساعة اللحظة الحاسمة ولم يؤيد أحد أن يقسم الرئيس في ميدان التحرير، أو في قصر المؤتمرات حيث يستدعى أعضاء مجلس الشعب الذي تم حله، مع شخصيات الثورة، مع أعضاء الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا. كل ذلك جرى استبعاده لصالح ما جاء في الإعلان الدستوري المكمل الذي يعترض عليه الرئيس الجديد، ومن ثم يكون القسم أمام المحكمة الدستورية العليا ممثلة للدولة المصرية في لحظة انتقالية حرجة، ومن بعدها جرت إجراءات تسليم السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى الرئيس، كما جرى الوعد من خلال احتفال خاص حتى ولو كان الجميع يعلمون أن «مؤسسة الرئاسة» لها تحفظاتها على سلطات لا يزال المجلس الأعلى للقوات المسلحة يحتفظ بها.

ما بين الإعلان والقسم جرت عملية «دولنة» الرئيس، أي أن يتحول من سياسي إلى رجل دولة أو مشروع رجل دولة إذا شاء، ولكنه بالتأكيد ليس رجل شارع أو ميدان. وتمت العملية الأولى في اليوم الأول بزيارة تبدو بسيطة إلى مقر رئاسة الجمهورية لكي يتعرف الرئيس على قواعد البروتوكول، ومن بعدها بدأت الاجتماعات مع مؤسسات الدولة؛ الواحدة بعد الأخرى، وكل منها تعرض له بالتفصيل ليس عن فصيل سياسي، ولا كيف تحل الأزمات القائمة وهي كثيرة، ولكن عن حالة مصر. وعندما كان اللقاء مع العسكر، كان الموضوع عن الأمن القومي لمصر، وعندما كان مع رئاسة الوزراء كان عن الاقتصاد المصري، الذي ليس إسلاميا ولا اشتراكيا ولا علمانيا ولا ليبراليا، وإنما فقط مجموعة المصالح والمواجع والقدرات الاقتصادية للشعب المصري والدولة المصرية. وعندما جاءت اللحظة للقاء مع جهاز المخابرات المصرية لم يكن الرئيس يجتمع سرا مع «الدولة العميقة»، كما ذاع التعبير مؤخرا في مصر، وإنما مع جهاز مهمته حماية الأمن المصري، ونبع أساسا من عملية صياغة سياسية لتحديات وتهديدات داخلية وخارجية، على الدولة المصرية أن تواجهها وتتعامل معها من ملف الإرهاب وحتى اختلال التوازن الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط كلها.

وهكذا سار الحال، ومن المؤكد أن الرئيس مرسي لم ينس أثناء كل ذلك أنه حتى أيام مضت كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، ورئيسا لحزب الحرية والعدالة، وعلى الرغم من أنه استقال من كليهما، فإن أعضاءهما وأجواءهما وترانيمهما تحيط به في كل لحظة وتذكره أن لا ينسى ما كان عليه، وما تم الاتفاق والتوافق عليه. ولكن هذه المرة فإن كل ذلك أصبح موجودا في منظور مختلف، منظور الدولة التي تقوم بعمل «الخرّاط» الذي يأخذ خامة من نوع أو آخر ثم يقوم بخرطها وتجهيزها للمهمة التي ستقوم بها، مثل ذلك لن يكون سهلا على الرئيس، ولكن منظوره لم يعد كما كان، ولذلك ربما ستكون أهم معضلاته كيف يتعامل مع رفاقه، أكثر مما كيف يتعامل مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو الوزارة أو الدولة العميقة أو الظاهرة أو حتى الصريحة التي تعرضها أدوات الإعلام صباح مساء. وكم كان مدهشا، ومثيرا، وأحيانا متجاوزا لقواعد وأصول التعامل مع الرؤساء، عندما أجاب الصحافيون المصريون عن دعوة الاطمئنان على مستقبلهم من الرئيس بأن من يحتاج الاطمئنان ربما كان الرئيس وليس الصحافيين الذين باتوا يعرفون أنهم لا يتحركون في إطار دولة فقط، ولكنها دولة ديمقراطية كذلك ربما كان طريقها لا يزال طويلا ولكنه واضح على أي حال.