خطورة الشأن المصري

TT

بعد طول انتظار وأخذ ورد وتوتر وجدل تنطق مصر بالخبر المتوقع المفاجئ في الوقت نفسه!

نعم «الإخوان» فازوا بكرسي الرئاسة رغم كل جهود المراقبين والمحللين السياسيين في التذكير بنسبية هذا الفوز الذي لا يعبر إلا عن ربع القاعدة الانتخابية في مصر.

ولكن هذه التفاصيل لا أهمية لها عمليا، إذ النتيجة صريحة ولا ينفع فيها التفلسف: بعد ثمانية عقود من الحلم بالحكم؛ «الإخوان» يصلون إليه.

إذن ربما الآن، وأكثر من أي وقت مضى، يمكننا أن نفهم الفهم السياسي الدقيق لجملة القرارات التي اتخذها المجلس العسكري المصري. فهي من منظور نتائج الانتخابات كانت، على ما يبدو، مقدمة لا بد منها، و«الإخوان» أول من فهم الرسالة، ومن ثم أول من وثق بفوزه! فما حصل في الآونة الأخيرة في مصر يعد بالغ الأهمية وشديد الدقة، وذلك من منطلق كونه يؤسس لنوع مغاير من ممارسة الحكم ويعيد تحديد الأطراف الحاكمة فعليا وضبط صلاحياتها.

ففي هذا الإطار من إعادة صياغة فكرة الحكم في مصر نضع القرارات التي اتخذها المجلس العسكري والتي أثارت الجدل والانتقاد الواسعين. ولا نعتقد أن المسألة تتعلق بمطامع عسكرية في الاستحواذ على الحكم أو أسلوب سادي يهدف إلى تقليم أظافر الرئيس المنتخب. فهي أقرب ما يكون إلى تدابير التحصين من مخاطر الإسلام السياسي في صورة وصوله إلى الحكم (وقد وصل فعلا)، أي أنها تدابير على مقاس الأحزاب السياسية الإسلامية ذات الشعبية المتزايدة، خصوصا في مرحلة ما بعد الثورة.

ولعل التمعن في دلالات إبعاد الرئيس الذي سيتم انتخابه عن القرار والمجال العسكريين، يرشح فرضية حالة الريبة القائمة؛ بالذات بين المؤسسة العسكرية والأحزاب ذات الخلفية الدينية من جهة، وبين هذه الأخيرة والدول القوية في العالم والمتحكمة في موازين القوى من جهة ثانية، خصوصا أن مصر الرقم الأكبر والأساسي في منطقة الشرق الأوسط. ومن ثم فإن هناك حدودا للديمقراطية المسموح بها في مصر وإلى أن تنجح قيادات الإسلام السياسي في البرهنة على جدارتها في أن تكون الصديقة البديلة للنظام السابق، فإن الشأن العسكري وقرار السلم والحرب وغير ذلك ليس من مشمولاتها.

وفي الحقيقة، فإن محترفي السياسة في مصر وخارجها يدركون جيدا قائمة الخطوط الحمراء، وأن الثورة، ذلك الحدث العظيم والاستثنائي، لا تعني البتة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل تحديدا أن تنسحبا من اللعبة السياسية داخل مصر وتقبلا بالمغامرة وتعريض مصالحهما وغير ذلك لمفاجآت الانتخابات الديمقراطية وفاجعاتها. لذلك فإن إجراءات الوقاية والحيطة المتخذة التي تعامل معها الإخوان المسلمون بوصفها التفافا على الثورة وضربة نوعية ضدهم أولا وأساسا، إنما تندرج أيضا في سياق التخفيف من مخاوف العالم الخارجي، بالإضافة إلى أن تاريخ جدلية الحكم و«الإخوان» في مصر يفرض مجموعة من المحاذير، وهو أمر منطقي في بلد ذي مكاسب تحديثية ومصالحه الاقتصادية غير منفصلة عن التزاماته السياسية الخارجية، وهو ما يحتم عليه انتهاج سياسة تتسم بالعقلانية والحكمة والبراغماتية بعيدا عن تطرف الآيديولوجيات مهما كان نوعها.

وعلى ضوء الأنموذج المصري الذي نعتقد أنه يتجاوز جغرافية مصر السياسية وقابل للنسخ في بلدان أخرى مع إدخال بعض التعديلات تراعي الخصوصية، فإنه يمكن تبني بعض الاستنتاجات الأولية، لعل أولها أن أي انتخابات رئاسية تجرى في البلدان التي عرفت ثورة وغيرها وتنتهي بفوز الإسلاميين وتسلمهم الحكم، فإن مثل هذا الفوز سيشفع بتنامي دور المؤسسة العسكرية كي تكون العين المراقبة واليد الماسكة بزمام الأمور الخطيرة في الميزان الأوروبي والغربي، وأيضا كي تكون مستعدة للتدخل ساعة اللزوم.

وفي مقابل ذلك يبدو أنه لا مناص من التعايش بين العسكري والمدني وتوزيع الأدوار داخل الحكم نفسه، إذ إن المؤسسة العسكرية في بلدان الثورات التي تعيش ارتباكات، في الجملة، تعد الطرف الوحيد بالنسبة إلى الغرب يمكن الوثوق به. فكما يعاد بناء النسيج السياسي وغيره في تلك البلدان فإن أوروبا والغرب عموما بصدد تعديل شبكة علاقاته وقياس الثابت والمتغير فيها.

طبعا قد تبدو مثل هذه القراءة محبطة لمطلقي الثقة في الديمقراطية وللمعتقدين في الأثر المطلق للثورة، غير أن الطرف القادر على تعميق الانتقال الديمقراطي وتغليب الحكم المدني هو النخب الليبرالية الحداثية التي ما زالت تعوزها القاعدة الشعبية التي وحدها في مناخ ديمقراطي تؤهلها للوصول إلى الحكم، لأن لعبة الديمقراطية تحددها صناديق الاقتراع وعدد الأصوات.