هل نسي عمرو أضرحة مصر؟

TT

فزعت اليونيسكو حينما حمل متشددون إسلاميون المعاول والفؤوس لهدم أضرحة أولياء مسلمين في مدينة تمبكتو شمال مالي كانت قد أعلنت المنظمة الدولية المعنية بالتربية والعلوم والثقافة أنها ضمن التراث العالمي المهدد بالخطر.

المتشددون الذين يسمون أنفسهم «أنصار الدين»، جماعة مسلحة احتلت شمال مالي منذ أشهر قليلة وأثارت الرعب وتسببت في تهجير أهالي المنطقة وإشاعة الجريمة، وهذه الجماعة تقدم نفسها على أنها تأتمر بأمر الله، وأن هدمها للأضرحة بهدف محو آثار الشرك بالله.

وقد سبقهم لهذا العمل جماعة طالبان في أفغانستان وعناصر من تنظيم القاعدة عندما أقدموا على هدم تماثيل «بوذا» في منطقة باميان، متعللين بالحجة نفسها، وهي طمس معالم الشرك بالله.

بعض المسلمين يجتهدون كثيرا في الكتابة بالخط العريض لكل ما فيه إساءة للإسلام وللمسلمين وإظهارهم على أنهم فئة منعزلة عن العالم بثقافته واهتماماته، فيختزلون مساحات الدين الإسلامي الفضفاضة في حيز ضيق. فهل هدم الآثار التاريخية هو الوقاية من ممارسة الطقوس الشركية كطلب التبرك من صاحب القبر أو اعتقاد أنه يدفع ضررا أو يجلب نفعا؟

حينما هدم الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - أصنام الكعبة في يوم فتح مكة، هدمها إيذانا بنهاية عصر عبادة الأوثان، وتمكينا للدين الجديد الذي كان لا يزال بحاجة لتجذير مبادئه وتقوية صلبه، حيث إن صناعة الأصنام من الحجارة والتمور والخشب ثم عبادتها كانت عقيدة سائدة يعتنقها العبد والسيد. ولكن في هذا العصر، الذي تشيد فيه المساجد وتقام شعائر الإسلام بحرية غير مسبوقة في التاريخ في أوروبا وأستراليا وآسيا وأفريقيا، يعد تقديس الأضرحة والتبرك بها مخالفات دينية محدودة العدد، علاجها ليس هدم الضريح، بل إدارة هذه المواقع الأثرية بأسلوب التوعية والمحافظة والتثقيف.

عمرو بن العاص، داهية العرب، لم ينس، ولم يغفل، ولم يضعف على أن يسوي بالأرض كل تماثيل وأضرحة مصر حينما دخلها فاتحا، مبعوثا من خليفة المسلمين عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - ولو أراد أن يفعل لفعل ولم يكن ليرده عن ذلك أحد. والآثار المصرية التي دخل ابن العاص ورآها في مصر ليست الأهرام وأبو الهول فحسب، بل أضرحة وتماثيل وقلاع منتشرة في مواطن عديدة في مصر، من الجيزة، وحتى الإسكندرية شمالا، وأسوان جنوبا، لم يمسها الفاتحون ولم يعبثوا بها، رغم أن ابن العاص لم ينس أن يوقف عادة مصرية قديمة بنيت على أسطورة تقول إن نهر النيل لا يجري إلا بإلقاء فتاة فيه خلال يوم معلوم من شهر من شهور السنة عندهم، أنكر المسلمون الفاتحون هذا الطقس فلماذا لم يبادروا إلى هدم القبور والتماثيل؟ كما أن ما يقال إن عمرو بن العاص لم يتعرض لآثار مصر لأنها كانت في ذلك الزمان مطمورة تحت الأرض، هو محض هراء، فإن كانت مطمورة في جزء منها فلم يكن باقيها كذلك، ولم نسمع أن أرض مصر انشقت فجأة وخرجت تماثيلها وأضرحتها إلى السطح.

ومن أعجب المتناقضات بين ما جاء به القرآن الكريم وبين موقف المتشددين الإسلاميين، أن الله تعالى أمر الناس أن يسيروا في الأرض، ويتأملوا آثار الأقوام السابقين، ويتفكروا فيها، لأنها تحوي ما يضفي على الوجدان ويغني الروح من الحكمة المنتقاة والعبر والقصص.. بل أكد الله تعالى أنه أبقى على جثة فرعون حاكم مصر ليتدبرها الناس ويتعظوا من مصيره: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً»، أي أن وجود المومياء بشكلها المجسم هو مدعاة للتعلم والتفكر والتأمل، وليس مكانا للضرب بالمعاول والفؤوس.

وفي الواقع، لا أحد يستطيع أن يلوم متطرفي مالي على موقفهم من الأضرحة لأنهم ارتكبوا إثما أكبر بانتهاكهم لأمن الناس واستقرارهم، حيث تظل حياة الناس، مهما عظمت قيمة التاريخ، هي الأسمى.

المشكلة في مدينة تمبكتو أنها مدينة أثرية ليس فقط بأضرحتها بل بالمخطوطات والآثار المنقولة التي بيعت في أسواق أفريقيا وأوروبا بعد احتلال المتشددين للمنطقة، أي أنهم أحلوا لأنفسهم سرقة هذه الآثار وبيعها والانتفاع بمالها باسم الله ونصرة الدين الذي يعتنقونه ويفترون على الله كذبا بأنه الإسلام.

منظمة اليونيسكو التي تشتكي اليوم من ممارسات هدم الأضرحة عليها واجب التنسيق مع الحكومات، خاصة في الدول الفقيرة، من أجل إدارة هذه الآثار بأسلوب حديث، من حيث حمايتها والإشراف عليها وحتى برمجة وتنظيم زيارتها. اليوم لا تستطيع اليونيسكو أن تصل للأضرحة في تمبكتو ولا أن تحميها، ولكنها تستصرخ طلبا للتدخل الدولي، وأنا أعتقد أن أهم تدخل هو ما حصل من جانب الدول الإسلامية التي بادرت بإعلان موقفها، وقد مثلتها في ذلك منظمة التعاون الإسلامي التي فعلت خيرا باستنكارها هذا الجرم في حق التاريخ والثقافة. صحيح أن متطرفي تمبكتو قد لا يبالون بموقف الدول الإسلامية، ولكن تسجيل موقف موضوعي من منظمة تمثل المسلمين قد يخفف من ألم خسارة هذه الآثار ويجعلنا شركاء مع العالم في الشعور بهذه الخسارة، كما يوصل رسالة إيجابية بأن إسلام جماعة «أنصار الدين» ليس هو إسلام عمرو بن العاص، كما نعرفه.

[email protected]