مستقبل وتقنية وتغيير!

TT

يسمونه عالم المستقبليات وهو لا علاقة له بالتنجيم ولا «التبصير»، فلا قراءة فيه لفنجان ولا ضرب بالمندل، ولكنه يعتمد على قراءات لفرضيات ومحصود معارفي تراكمي لأرقام ومعايير وظواهر تبنى عليها فرضيات دقيقة لتوقع اتجاهات مستقبلية، ومن أهم الكتاب الذين عرفوا في هذا المجال الفريد كان آلفن توفلر الأميركي المعروف صاحب المؤلفات ذائعة الصيت في هذا المجال، لعل أهمها وأشهرها كان «صدمة المستقبل» و«الموجة الثالثة». وكان كذلك الأميركي الآخر الشهير جون ناسبيت الذي ألف كتابا في غاية الأهمية في هذا النطاق بعنوان «الظواهر الكبرى»، ولهذا الرجل مقولة معروفة ومهمة جدا، وهي «كل ثورة تكنولوجية تقدم لثورة اجتماعية»، ولعل ذلك يفسر كثيرا علاقة التقنية وأثرها على مواقع مختلفة حول العالم بصورة عامة وعلى تبعات الحراك الثوري الذي بات معروفا بظاهرة «الربيع العربي». فكما بات معروفا، فالتقنية الإلكترونية الحديثة الخاصة بوسائل الاتصال المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها ساهمت في إذابة الحواجز والموانع بين الناس وأعطت الفرصة لأعداد هائلة من الناس في تكوين ثقافة «القطيع» أو «المجاميع»، وهي التقاء مجموعات متزايدة من الناس تحت مظلة واحدة تجمعهم باسم هواية أو انتماء سياسي أو ديني وهكذا، ولكن اللافت أن الالتقاء تحول إلى «تعصب». فالوسائل هذه ساعدت على «تكثيف» أدق الانتماءات والولاءات، فالولاء الديني تحول إلى طائفي ومذهبي والانتماء الوطني ولد بديلا عنه انتماء مناطقي وعشائري وقبلي.

قدرة هذه الوسائل على «تكوين» هويات جديدة فاقت في قدرة معسكرات الأحزاب ومؤتمرات الجماعات عبر عقود من الأزمان، وهذا التأثير الجديد والكبير لهذه التقنية الباهرة شبيه بما حدث في الأزمنة السحيقة منذ أكثر من أربعمائة عام عندما اخترع العبقري غوتنبرغ آلة الطباعة الحديثة، ومن دون أن يعرف ساهم بشكل فعال ومباشر في خدمة القس مارتن لوثر بنشر أفكاره بعد ترجمتها من اللاتينية إلى الألمانية في أكثر من دولة أوروبية في وقت واحد لينشر فكره الشديد النقد للكنيسة الكاثوليكية التي كانت مسيطرة ومهيمنة على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في جميع أنحاء القارة الأوروبية، وليبدأ فكره في الانتشار ويلقى القبول ويكون بالتالي إيذانا لولادة الفكر البروتستانتي الذي أحدث ثورة هائلة في الكنيسة المسيحية وكان بمثابة النقلة الكبرى والتي لا تزال تفرز تبعاتها حتى اليوم عن طريق المزيد من الفروع والطوائف التي خرجت من رحم البروتستانتية.

هناك من الدول من وظف التقنية لتكريس الاستبداد والطغيان وكانت أدوات التجسس والتنصت على المواطن حتى تولدت لديه حالة من الذعر والخوف أشبه بالهستيريا. وكما كان للتقنية الحديثة دور مهم في استحداث هذه التطورات في التواصل والاستقطاب، كذلك كان لها دور مؤثر في اختراق خصوصيات المواطن تماما وانعدامها، وذات الشيء ممكن أن يقال في حق الدول التي ساهمت هذه التقنية بشدة في إنقاص قيمة «السيادة» والتأثير عليها والتسلط على حدود هذه الدول في الكثير من الأحيان والمشاركة في حق المعلومة والخبر والمزايا المرافقة لذلك. المستقبل يعاد تشكيله اليوم بخطوط عريضة تتبلور بشكل مدهش أمام أعيننا، وما هو موجود في مختبرات ومعامل شركات التقنية ولم يتم إطلاقه لنا بأشكال تجارية حتى الآن ينذر بالمزيد من الدهشة والذهول.

وكل ذلك يعني أننا أمام موجة هائلة من التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يليق بالأحداث والتطورات التقنية الحاصلة.

[email protected]