في أصل الذبابة والخريطة

TT

هناك أشياء كثيرة يعاد استخدامها في الإعلام أو في الحكايات، ولكن بعد تغيير التواريخ أو الأسماء أو الأمكنة. في الصراع الإعلامي الدائر بين سوريا وقطر، ذكر منذ عدة أسابيع أن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف تشاجر مع وزير خارجية قطر حمد بن جاسم، ولما علا الصراخ قال الروسي: «ليس بلدك سوى نقطة على خريطة العالم». نفى الروسي هذا الكلام، ليس محبة بقطر، بل ضنا بالخطاب الرسمي الروسي الذي كان أول شيء غير إثر سقوط السوفيات ورمي جميع طبقات القاموس الشيوعي في نهر الفولغا، أو وفق التعبير الليني «في مزبلة التاريخ».

صدر أخيرا كتاب راق بعنوان «أعداء: تاريخ مكتب التحقيق الاتحادي»، بقلم تيم واينر الذي وضع قبل سنوات «إرث الرماد: تاريخ السي آي إيه». أحد فصوله المثيرة حول قرار البيت الأبيض «آخر أيام أيزنهاور ثم أيام كيندي» بالتخلص من حليف شديد الإزعاج هو ديكتاتور جمهورية الدومينكان تروخيو، وعدو شديد الأخلاق هو فيدل كاسترو. كان تروخيو، الفاسد والفاسق والشائن في كل شيء، قد اشترى عددا كبيرا من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، بالمال والنساء، وأقام في بلده حكما كالقبور، ولعل أروع ما كتب في وصف تلك المرحلة، رواية «حفلة التيس» للكاتب ماريو فارغاس يوسان البيروفي الذي منح نوبل في الآداب.

بدل أن ترسل أميركا إلى تروخيو سفيرا من عالم الدبلوماسية، أرسلت إليه جوزيف فارلاند، أحد كبار ضباط المكتب الاتحادي. وكانت التعليمات إلى فارلاند شديدة الوضوح: «لا نريد إلغاء تروخيو، أي بكلام آخر اغتياله، لكننا نريده أن يحمل مسروقاته ويمشي». ذهل فارلاند بعد فترة من وصوله، كان الأمر أسوأ مما قيل له، فرفع إلى الخارجية تقريرا مفصلا عن المدائح الكاذبة التي يطلقها أعضاء مجلس الشيوخ للديكتاتور لقاء سائر أنواع المكافآت، وتحدث عن انتشار عمليات القتل والتعذيب، وقال: «تروخيو يسيطر سيطرة كاملة، وإنه يبيد خصومه، والقتل هو الأسلوب السائد، ثمة انهيار كامل لأي معيار أخلاقي». اكتشف فارلاند أن تروخيو قد اشترى جميع موظفي سفارته، فأقالهم، وعرف أن سفارة الدومينكان في واشنطن فتحت «فندقا» سريا خاصا لسهرات أعضاء مجلس الشيوخ فلم يستطع أن يفعل شيئا، لكن أخيرا فقد البيت الأبيض صبره فطلب من فارلاند أن يبلغ الديكتاتور بأن المساعدات الأميركية سوف تقطع عنه: «ذهبت بمفردي، كان معه (واقفين) سفيره في واشنطن وقائد الجيش وقائد البحرية وقائد السلاح الجوي، انفجر في وجهي واحمر غضبا، ثم بدأ يشتم رئيسي، أيزنهاور، قال: إنه عبثي ولا يفهم بالسياسة ولا يعرف ماذا يجري في منطقة الكاريبي، ثم صاح: إنه ابن... عندها لم يعد في مقدوري الصبر، فانفجرت بدوري وأنهيت كلامي بالقول: (في تقديري لست سوى ديكتاتور صغير، وأما بلدك بالمقارنة مع بلدي فليس سوى قذى ذبابة على الخريطة»).

تلك هي قصة الذبابة والخريطة كما وقعت في الأصل وليس كما نسبت إلى الرفيق لافروف الذي نفاها، لأن وزير خارجية أكبر بلدان العالم حجما يعرف أن حجم روسيا الاقتصادي أقل من حجم نيويورك.