مصر تستطيع وسوف تتمكن من استكمال ثورتها

TT

إن السواد الأعظم من المصريين في حالة من نفاد الصبر، على نحو مفهوم. فهم متلهفون لرؤية أهداف الثورة الممثلة في العدالة الاجتماعية والديمقراطية وتوفير مستوى معيشي أفضل لجميع الرجال والنساء، تتحقق على أرض الواقع. ويساورهم الشك في القوى التي تسعى لاختطافها. لقد سئموا من انتظار عودة الأمن إلى شوارعهم وأحيائهم. علاوة على ذلك، فإنهم يتطلعون إلى القضاء الفوري على المعوقات الأخرى التي تعرقل النمو، وتوفير فرص العمل وتحقيق الاستقرار المالي.

وأتوق أنا أيضا بالمثل لرؤية كل هذه الأهداف تتحقق بسرعة فائقة في سياق دولة مصرية تتسم بالنشاط والشمولية ما بعد الثورة. كذلك، وعلى غرار كثيرين آخرين، يحدوني القلق من أنه كلما طالت المدة التي يستغرقها تحقيق الأهداف بشكل مادي ملموس على أرض الواقع، زاد خطر احتمال وقوع الثورة فريسة لمصالح شخصية ضيقة، الأمر الذي يقوض واحدة من أكثر الانتفاضات الشعبية إلهاما وتأثيرا على مر التاريخ.

ويكمن التحدي بالنسبة للمجتمع المصري في التوفيق ما بين هذه المشاعر الحقيقة والطموحات المشروعة، وحقائق ما بعد الثورة على الأرض، وعلى نحو أكثر شمولا، في الاقتصاد العالمي. وهذا يتطلب تحقيق أربعة شروط: فهم أفضل للتحول الذي تشهده مصر والمحاور التاريخية التي تواجه الدولة؛ وصياغة رؤية أوضح للمصير الاقتصادي للدولة على المدى المتوسط؛ واتخاذ خطوات فورية لاستعادة النمو وآليات التوظيف في الدولة وتحقيق الاستقرار لمواردها المالية؛ والتقدم المستمر في الجهود الممتدة على مدار عدة أعوام؛ لإنشاء مؤسسات قوية وأكثر شفافية وتحملا لمسؤوليتها وعرضة للمساءلة.

السياق

في أعقاب انتفاضة شعبية مؤثرة والإطاحة بالرئيس مبارك، واجهت مصر صعوبات في الانتقال للمرحلة التالية من التغيير الثوري التاريخي؛ وتحديدا التحول من تفكيك الماضي إلى المرحلة التي تنطوي على مزيد من التحديات الممثلة في إرساء محركات مستدامة لمستقبل أفضل.

في الوقت الذي تبدو فيه هذه الصعوبات محبطة ومخيبة للآمال، ولكنها لا يجب أن تأتي كمفاجأة كبرى بناء على تقييم تجربة الكثير من الحركات الثورية الرئيسية الأخرى. في واقع الأمر، يذكرنا التاريخ بأن عملية التغيير الإيجابي تستغرق وقتا وجهدا، خصوصا مع ظهور دول ومجتمعات من أنظمة قمعية سيطرت على كل من المؤسسات الحكومية والخاصة ووزعت الموارد بشكل غير عادل وقضت على المحاسبة والشفافية.

ليس من السهولة بمكان إنشاء مؤسسات تتمتع بالمصداقية وذات فاعلية بشكل فوري، ولا سيما إذا كانت الجهود الفعلية في هذا الصدد تبدأ من العدم. من اللازم وجود قيادة سياسية قوية، وقيادة تتمتع بالقدرة والإرادة من أجل تأمين دعم مشروع واسع النطاق. وعلى السكان تقبل رؤية متوسطة المدى من المفضل أن تضم بعض المكاسب المبكرة والواضحة.

وفي أعقاب الإطاحة بالرئيس مبارك، واجهت مصر كما هائلا من هذه التحديات. وقد محت سنوات الحكم القمعي الوعي وسرعة الاستجابة والشمولية من المؤسسات الرئيسة في مصر. وافتقرت القيادات السياسية ما بعد الثورة - من خلال تقوقعها على ذاتها - إلى التنظيم والمكانة كي يتسنى لها، بتوظيف نموذج نيلسون مانديلا الشهير في جنوب أفريقيا، حث المواطنين على المضي قدما للأمام بانتهاج مبدأ «التسامح دون نسيان الماضي». وقد حقق الشعب قليلا من المكاسب الأولية التي تتجاوز نطاق زيادة القدرة على التعبير عن الذات والتنظيم بشكل أكثر حرية؛ وهي خطوة حاسمة لكنها لا تسمن ولا تغني من جوع، فضلا عن أنها لا توفر مزيدا من التطمينات بشأن تحقيق الرفاهية في المستقبل.

إضافة إلى ذلك، فقد عرقل مصر في حقبة ما بعد الثورة ظروف الكيانات التي تتطلع لملء الفجوات السياسية الجديدة. على سبيل المثال، بدأ الطامحون بظروف أولية مختلفة تماما في ما يتعلق بالشبكات والتنسيق؛ من الحشد الشعبي لجماعة الإخوان المسلمين والهيمنة التقليدية للقوات المسلحة، إلى إسراع الحركات الشبابية والعلمانية الجديدة لتنظيم صفوفها بالوقت المناسب في صورة أحزاب سياسية فعالة. وقد تساءل كثيرون عن المدى الذي ستعود خلاله القوات المسلحة، بعد قيامها بدور هام في المرحلة الانتقالية - إلى ثكناتها - وبموجب أي شروط.

إن أهداف الثورة السلمية التي اندلعت في مصر لن تتحقق على أرض الواقع من دون القرارات التي اتخذتها القوات المسلحة في المراحل الأولى؛ وقد تسببت هذه القرارات في أن تحظى بالاحترام والتقدير بين المدنيين من جميع الخلفيات الاجتماعية الاقتصادية والديانات والأعمار عن جدارة. غير أنه كلما طال أمد المرحلة الانتقالية العسيرة المشكوك فيها تحت قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، زادت التساؤلات المثارة حول الأهداف النهائية والمطامح السياسية للقوات المسلحة.

وقد أسهمت كل هذه الاختلافات في «الظروف الأولية» بشكل حتمي في وجود ساحة لعب غير متكافئة - في كل من الواقع والخيال - بالنسبة للقوى السياسية التي تتنافس من أجل كسب تأثير في مصر الجديدة. وعلى هذا النحو، تنطوي صيغة وتوقيت كل خطوة سياسية مهمة على فائزين وخاسرين. ومع هذا، تظهر شكوك على السطح على نحو لا مفر منه. كل هذا أسهم في جعل المرحلة الانتقالية التاريخية الهامة والمحاور يكتنفهما تحديات جسام.

بعد ذلك، هناك الحقائق اليومية لأشكال التفكك الاقتصادي والمالي؛ فبعد أشهر من خلع الرئيس السابق مبارك، افتقرت مصر لاقتصاد فعال وموارد مالية قوية، وأصبح حجم الإنتاج والدخل أقل من إمكانات الدولة، فما بالك بالموارد المالية المطلوبة لمخاطبة المشكلات الخطيرة مثل الفقر والبطالة؟ لقد قلت الاستثمارات المحلية والأجنبية، مما قضى على مصدر رئيسي لإنعاش الاقتصاد.

تدنى معدل انتعاش السياحة بشكل مخيف، في الوقت الذي استمر فيه خطر هروب رأس المال مرتفعا على نحو مقلق.

ومع ارتفاع الدخل وعدم المساواة في توزيع الثروة، سرعان ما تحولت مشكلات تدهور الاقتصاد في مصر إلى مشكلات اجتماعية مقلقة؛ عندما كان هناك ملايين المواطنين يعانون بالفعل من الفقر ولم تكن لديهم موارد مالية (خاصة بهم أو يحصلون عليها عبر شبكات أمان مقدمة من الحكومة).

أخيرا، يجب ألا ننسى المناخ العالمي غير المستقر؛ فأزمة الدين المتوغلة في أوروبا، جنبا إلى جنب مع ركود النمو الاقتصادي، قد تسببتا في هبوط حجم التجارة والسياحة في مصر. كذلك، تباطأ النمو في دول ناشئة ذات أهمية نظامية، مثل البرازيل والصين والهند. وقد أدى هذا كله إلى وضع عقبات تقف حجر عثرة في طريق مصر نحو التصدير، كما ساعد أيضا في جذب مساعدات خارجية، وتأمين الإعفاء من الديون المطلوبة لتزويد الدولة بمتنفس مالي.

التطلع للمستقبل

إن هذه كلها أسباب مشروعة تبرر مواجهة الثورة صعوبات في التحول من خلع الرئيس السابق مبارك إلى تهيئة مستقبل شامل للشعب المصري. وعلى نحو لا مفر منه، تؤجج هذا المخاوف من احتمال أن تختطف الثورة أو أن تخرج عن مسارها الصحيح.

ومع هذا، فإن ثمة مبررات تدعو للتفاؤل. وتنطلق تلك المبررات من إدراك حقيقة أن مصر قد شرعت في عملية تستغرق عدة سنوات والتي كانت قبل عامين غير محتملة، إن لم تكن مستحيلة.

إنها ليست مجرد عملية تستغرق عدة سنوات، ولكنها عملية متعددة المراحل والجوانب تنطوي على تعلم وتكيف على المستويين الفردي والجماعي.

وانطلاقا من مميزاتها الهامة وقدرتها على الحركة بمرونة في الكثير من المجالات، فإن مصر سوف تمضي قدما. صحيح أنها ستمر بطريق وعر وغير ممهد ومتسم بالفوضى في كثير من الأحيان، ولكن سيكون هناك قدر أكبر من الحكم الرشيد خلال الفترة المقبلة، كما ستتشكل شبكات وهيئات جديدة، وسيتم بناء وإعادة بناء التحالفات والاتحادات، وسيتحسن الوضع الاقتصادي والمالي.

يأخذنا كل هذا إلى الشروط الأربعة الرئيسية التي من شأنها أن تسهل وتسرع من عملية ظهور وجهة مستقلة للبلاد، وتساعد على تجنب المطبات التي قد تواجهها مصر خلال هذه الرحلة.

أولا، من الأهمية بمكان للعملية السياسية أن تكون أكثر انفتاحا على التحديات التي تواجه تحول مصر التاريخي والمحاور الأساسية في الدولة. ومن المفهوم أن كل القوى السياسية حريصة على استخدام تجاوزات الماضي لإضفاء الشرعية على مطالبتها بالنفوذ والقوة في مصر الجديدة. وفي الحقيقة، يتعين على تلك القوى أن تكون أكثر انفتاحا على التحديات الحقيقية التي ستواجه مصر في المستقبل القريب، من خلال التواصل المستمر والمباشر وتقييم أفضل للصعوبات التي لا مفر منها.

ثانيا، يتعين على القيادة السياسية وضع رؤية ملموسة وحقيقية للاقتصاد خلال فترة الثلاث إلى الخمس سنوات القادمة. ويجب أن تتجاوز هذه الرؤية مجرد الشعارات التي لا يختلف معها أي شخص عاقل، كما يجب أن تتركز على خطة مفصلة ومترابطة على المدى المتوسط ويمكنها إيجاد إجابات للكثير من الأسئلة مثل: كم عدد فرص العمل التي يمكن توفيرها؟ متى ستستقر الأوضاع المالية الداخلية؟ كيف يمكن توجيه الإنفاق العام بشكل فعال لتقديم خدمات أفضل وتقديم دعم أكبر لكثير من المواطنين (في مقابل القلة)؟ ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الجهات المانحة والمقرضة الخارجية؟

ثالثا، يتعين على مصر أن تتخذ خطوات فورية تهدف إلى استقرار وضعها الاقتصادي والمالي. وفي الحقيقة، يتعين التخلص من كل المعوقات الأساسية التي تحول دون استعادة معدلات الإنتاج والتوظيف التي كانت موجودة قبل الثورة، ويمكن القيام بذلك. وعلاوة على ذلك، يجب - ويمكن - تقليل الشكوك القانونية والتنفيذية، التي كان كثير منها مرتبطا بسوء استخدام الإجراءات القائمة. وعلى الرغم من الطموح الرائع والصحيح للاعتماد على الذات، فإن مصر بحاجة إلى إعادة النظر في كيفية استغلال التمويل الخارجي في تحسين الأوضاع الاقتصادية، على أن يكون هذا التمويل بشروط مناسبة وغير مجحفة.

وفي النهاية، لن يكون أي من ذلك فعالا بصورة كاملة، دون وجود مؤسسات تعمل بشكل صحيح وبشكل شرعي، وتخضع للمساءلة التامة، وهذه هي السبيل الوحيدة لمجابهة الفساد، الذي أدى إلى تآكل نزاهة وحيوية مصر على مدى سنوات طويلة، علاوة على مكانتها وسمعتها الدولية.

وبعد بداية وعرة ومتخبطة، نجحت مصر في جني بعض الثمار الهامة في هذا الإطار، بدءا من انعقاد انتخابات حرة ونزيهة نسبيا، واختيار أول رئيس مدني لمصر، ويمكن أن يكون هذا هو أول لبنة في بناء مؤسسات الدولة التي تحتضر، تلك التي كانت موضعا للانتقاء من قبل مصالح الأقلية التي كانت تحصل على كل الامتيازات.

المحصلة النهائية

من المؤكد أن قائمة المطالب التي ذكرناها سابقا ليست سهلة بالمرة، والسؤال الآن هو: هل ستكون تلك المطالب صعبة على المجتمع المصري الذي تعرض للقمع لفترة طويلة ويعمل في بيئة اقتصادية عالمية غير مستقرة على نحو متزايد؟

ثمة خطر على تحقيق تلك المطالب بالتأكيد، ولكن يتعين إدارتها بعناية فائقة، ولا سيما أن البلاد تخطو أولى خطواتها بعد الثورة في ما يتعلق بالظروف الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية. إنني أومن بقوة بأن مصر لديها من القدرة والإرادة ما يمكنها من المضي قدما، ومن تحقيق أهداف ثورتها.

إنني لا أقول هذا كطرفة ساذجة ومثالية، ولكن أقوله من منطلق تجاربي الشخصية وحياتي المهنية وكشخص تعرض لهذا التغيير في كثير من الدول في مختلف أنحاء العالم. ومن خلال مراقبة التطورات التي تحدث في مصر عن كثب، لا يمكنني إلا أن أعجب للغاية بالعامة الذين يشعرون - ويؤمنون بقوة - بأن مصر قد أصبحت بلدهم الآن.

ويمكن رؤية هذه السمة الرائعة في شدة الخطاب السياسي وفي الرغبة في المشاركة، وفي المشاركة المدنية والعمل التطوعي في جميع أنحاء هذا البلد الذي يعتز بنفسه كثيرا.

وبعد عقود عدة، بدأ المصريون، ولا سيما الشباب، يشعرون بأنه قد أصبح لديهم مطالب مشروعة وفعالة في الشارع، وأصبح لديهم القدرة التنظيمية والدافع الملهم على المثابرة. ويعمل هذا وحده على توفير مجموعة من الضوابط والتوازنات التي كانت مصر تفتقر إليها بشدة قبل الثورة، وعلى الرغم من أن هذا لا يعد ضمانا للتوصل إلى نتيجة محددة في فترة زمنية معنية، إلا أنه يعد نكسة كبيرة للأقلية ذات المصالح الخاصة التي تعمل على تعطيل مسار الثورة التي حظيت بإعجاب واحترام الملايين في جميع أنحاء المعمورة.

* الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار المشارك في شركة «بيمكو الاستثمارية العالمية»