الليبرو إخوان

TT

الأحداث الكبرى توجب على المثقف إعادة القراءة للمعطيات والرؤية، لكنها لا تستلزم التغير بالضرورة ما لم تكن ثمة مبررات موضوعية لذلك. وفي العالم العربي ثارت جدالات عريضة ومستحقة حول المشهد برمته، إن في التوصيف أو القراءة والتحليل أو الرؤية المستقبلية.

ضمن هذا السياق فمن الطبيعي بل من الصحي أن يستمر الجدل حول وصول جماعات الإسلام السياسي لسدة الحكم في عدد من البلدان العربية عبر صناديق الاقتراع، ومن المفيد أن تتعدد الرؤى ومداخل التحليل ومناهج التناول لظاهرة بهذا الحجم، وأن تعقد المقارنات، وأن يستحضر التاريخ والواقع والمستقبل، وأن تتم الإشارة للتحديات السياسية والاقتصادية والثقافية.

من هنا فإن ثمة مشكلة يمكن رصدها عند بعض المثقفين العرب وغالبهم من خارج بلدان الاحتجاجات، وتكمن تلك المشكلة في تضخم جانب على حساب آخر في نظرتهم لما يجري، فهم يحسبون مثلا أن الواقعية السياسية تحتم عليهم الرضا والطمأنينة بأرقام صناديق الاقتراع التي جاءت بـ«الإخوان المسلمين» من دون نقد ولا مساءلة ولا تحليل، وهم عن وعي يمارسون الاختباء تحت شعار الديمقراطية ويتغافلون عن مفهوم الديمقراطية نفسه، وجدالاته العميقة قديما وحديثا، ويغفلون عن أن أرقام صناديق الاقتراع لا توجب انقلاب أفكار صناديق الرؤوس.

عبرت كثير من الرموز والنخب والأحزاب المدنية في مصر خلال عام ونصف عام عن تخوفات متفاوتة من وصول «الإخوان» لسدة الحكم، وحين خرجت النتائج لم يرفض أحد منهم فوز الرئيس مرسي، لكنهم استمروا على قناعاتهم تجاه «الإخوان» ومشروعهم السياسي ثقافيا باستمرار النقد وسياسيا باختيار المعارضة، وهو ما لم يفعله بعض المثقفين العرب الآخرين بدعوى أن مجرد فوزه بأرقام الاقتراع يلغي كل المسائل التاريخية والثقافية والسياسية موضع الجدل مع «الإخوان».

الأسبوع الماضي جاءت حادثة كاشفة، حين أصدر الرئيس مرسي قراره بإعادة مجلس الشعب خلافا لحكم المحكمة الدستورية التي اكتسب الرئيس شرعيته الدستورية بالقسم أمامها، ومرت مصر بأزمة حقيقية استمرت أياما، فانحازت التيارات المدنية من ليبراليين وقوميين ويساريين وغيرهم لمدنية الدولة، واتخذوا مواقف معلنة صريحة وقوية ضد قرار الرئيس، والأسماء مشهورة منها سعد الدين إبراهيم وحمدين صباحي والبرادعي ورفعت السعيد والسيد البدوي وغيرهم كثير. لكن بعض المثقفين العرب لم يفعلوا، وظلوا على قناعتهم.

تراجع مرسي بعد أيام عن قراره بعدما ألقى بحجر ضخم في بركة السياسة المصرية لم تلبث أمواجه أن عادت عليه، وربما كان هذا القرار موحيا بأن أسلوب خلق الأزمات ثم إدارتها لإعادة تشكيل المشهد قد يكون استراتيجية في المرحلة القادمة.

إن الواقعية لا تعني بحال من الأحوال التسليم الساذج والخضوع للأمر الواقع، لكنها تعني فهم الواقع وتحليله ورسم جدول الأولويات والمصالح تجاهه، فداخليا قادت الواقعية فرقاء «الإخوان» بمصر وتونس لمواجهتهم بعد الفوز، وإقليميا فقد واجهت دول الخليج - على سبيل المثال - نموذجين للإسلام السياسي، أحدهما شيعي في إيران والثاني إخواني في السودان، فلم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع البلدين - كما يعتقد البعض أنه لا خيار سياسيا إلا القبول التام أو المقاطعة - مع أنها عاشت لعقود صراعا مفتوحا مع الأول وشدا وجذبا مستمرين مع الثاني.

إن التجربة الديمقراطية ليست واحدة لا في التاريخ القديم منذ اليونان فالرومان، ولا الحديث حيث أوروبا والغرب، ولا المعاصر حيث تجارب الغرب تختلف عن تجارب الشرق. ومن هنا فإن ما يطرحه بعض المثقفين من تصور التماهي بين مستوى الوعي الانتخابي لدى الناخب العربي والناخب الغربي فيه إغفال للتاريخ والسياقات الحضارية للأمم والدول والشعوب.

لقد تجاوز الفرد الغربي كثيرا من انتماءاته الجماعية القديمة والمتخلفة سياسيا على الأقل، أعني الطائفية والإثنية والمذهبية والقبلية ونحوها، بينما لم يزل الفرد العربي غارقا فيها إلى أذنيه، وكما لا يعني استمرار وجود هذه الانتماءات لدى بعض الفئات في الغرب حتى اليوم أن الوعي الغربي متخلف، فإن إفرازات صناديق الاقتراع لدينا تعني وتشير إلى ترسخ تلك الانتماءات المتخلفة في الوعي العربي.

لا يجوز أبدا الخلط بين تصويت المنتمين لحزب سياسي في الغرب مثلا وتصويت أتباع جماعة الإخوان لمرشحهم باعتبار الأمرين شيئا واحدا، فالأول خيار سياسي والثاني مجرد قطيعية آيديولوجية لا يختارها الأتباع بل يخضعون لها، وهي تتم تحت قسم البيعة للمرشد وفرض الطاعة التسليمية المطلقة، فيتجهون لمراكز الاقتراع منزوعي الإرادة، وتنظيرات «الإخوان» لهذا توضح الصورة بجلاء لمن يتابع أدبياتهم، فهل من واجب المثقف أيضا أن يدافع مثل هذه القطيعية؟

يجني المثقف كثيرا على تاريخه وعلى أتباعه حين ينظر لجماعة الإخوان من ثقب صندوق الاقتراع، حيث لا تاريخ ولا وعي ولا ثقافة ولا سياسة، بل مجرد أرقام ترصف بجوار بعضها بعضا ثم يتم تقديسها بوجوب الخضوع والتسليم، ويزيد إدراك هذه الجناية حين تصبح معلومات التاريخ ومنتجات الفكر وطبيعة التنظيمات السياسية بلا قيمة، أو صفرا بلغة الأرقام.

لم يؤمن مؤسس الجماعة بالديمقراطية، وإن دخلها كوسيلة للاستحواذ على السلطة فقط، وكان رافضا للأحزاب السياسية، ومنحازا للعنف ضد مخالفيه داخل الجماعة، ويفضل استخدام العصا والضرب لتأديبهم، وتطور الأمر لديه ليؤسس تنظيما سريا للاغتيالات والقتل السياسي، ثم اتجه لتصدير الثورة فقادت جماعته انقلابا في اليمن، واليوم لم يزل الحرس القديم وأعضاء ذلك التنظيم السري هم المهيمنين على صناعة القرار داخل الجماعة، وقد استطاعوا طرد كثير من «الإخوان» المختلفين معهم، فجماعة بهذا التاريخ وهذا الواقع هي جماعة لا تؤمن في تعاملاتها الداخلية بالديمقراطية، ولكن بعض المثقفين يرون وجوب القناعة بأنها ستلتزم بها في قيادة الدولة.

لقد مارس «الإخوان» بوعي قصر مفهوم الديمقراطية على صندوق الاقتراع، وألغوا مفهوم الديمقراطية الواسع بما يشمله من ثقافة وفكر وفنون وإبداع، وتبعهم على هذا بعض المثقفين الذين ربما لم يعوا أن هذا التفريق الإخواني هو تفريق يخدم «الإخوان» ومشروعهم السياسي فقط، ولا علاقة له بتاريخ الديمقراطية ولا مفهومها.

يمكن لأي متابع استحضار كثير من تخبطات رموز «الإخوان» المنتخبين مؤخرا ومرشديهم غير المنتخبين في تونس ومصر، ولكن بعض «الليبرو إخوان» وبشكل طقوسي يفضلون التغاضي عنها تماما واعتبارها غير ذات معنى لوجه صندوق الاقتراع وأرقامه.