لماذا تهمنا سربرينيتسا؟

TT

في يوم 6 يوليو (تموز) 1995، قامت منظمات «تشيتنيكس» (وهو الاسم الشائع لجماعات الفاشيين الصرب المتعطشين للدماء) بشن هجوم على مدينة سربرينيتسا، التي ظلت لوقت طويل تحت الحصار، وكان قائدهم هو راتكو ملاديتش - وهو مجرم حرب تجري محاكمته حاليا في لاهاي، ولا أتمنى له أن يقضي بقية حياته في السجن فحسب، بل في الجحيم أيضا - وكانت أوامره تقضي بـ«تطهير» المدينة بالكامل من البوسنيين، في إطار حملة إبادة جماعية تعرض لها مسلمو البوسنة والهرسك منذ أبريل (نيسان) عام 1992.

وسرعان ما تبين أن هذا الغزو كان في الحقيقة عبارة عن عملية قتل جماعية، حيث تم قتل ما يزيد على 8 آلاف بوسني بدم بارد، وكان معظم الضحايا من الرجال والصبية، وإن انضم إليهم أيضا كبار السن والأطفال، بل وحتى الرضع. وقد وصف الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك تلك الحملة بأنها «أسوأ جريمة وقعت على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية».

وقد تذكر العالم سربرينيتسا مجددا هذا الأسبوع، بعد 17 عاما من وقوعها، حيث تم دفن رفات 520 ضحية تم اكتشافهم والتعرف عليهم مؤخرا، وسط مراسم تذكارية في بلدة بوتوكاري القريبة، ولكن بالنسبة لعائلات وأقارب الضحايا، فإن مجزرة سربرينيتسا حاضرة في ذاكرتهم كل يوم مصحوبة بالأسى والحزن والألم.

ولكن ينبغي علي أن أقول: إنهم ليسوا وحدهم، ففي نظر الملايين غيرهم ممن يشعرون بالتضامن مع مسلمي البوسنة، بما فيهم شخصي المتواضع، كانت سربرينيتسا حدثا فارقا. كنت في تلك السنوات أدرس في الجامعة، ومثل الكثيرين في تركيا، صدمتني رؤية الفاشيين الصرب وهم يذبحون الأبرياء الذين أطلقوا عليهم اسم «الأتراك»، وما أفزعني أكثر هو ادعاء هؤلاء الوحوش أنفسهم بأنهم يفعلون كل هذا كي يأخذوا بثأرهم من معركة كوسوفو التي وقعت عام 1389 وانهزمت فيها القوات الصربية على أيدي الجيش العثماني.

وبعبارة أخرى، فإن التاريخ يعود من جديد، رغم كل الجهود التي بذلت في العصر الحديث لتناسيه والتغاضي عنه. فالبلد الذي كنا نعرفه باسم «يوغوسلافيا» تفكك إلى دويلات، وعادت الهويات القديمة التي بدا أننا قد نسيناها لتطل برأسها، وكان إخواننا من مسلمي البلقان يتعرضون للاضطهاد والتعذيب والقتل. بل وأكثر من هذا، فإن الأوروبيين، الذين ظلوا يعطوننا محاضرات عن «حقوق الإنسان»، لم يحركوا ساكنا لإيقاف كل هذا، بل وكان البعض للأسف يساعدون الصرب بصورة ضمنية.

وكان من أشهر المشاهد الصارخة لهذا النفاق الأوروبي ما فعلته «قوات حفظ السلام» الهولندية في سربرينيتسا، التي كانت مهمتها هي حماية المدينة لتكون «ملاذا آمنا»، حيث سمحت للصرب بكل بساطة بارتكاب هذه المذبحة. وقد كانت الصورة التي يظهر فيها القائد الهولندي في المدينة، وهو رجل يدعى توم كاريمانز، أثناء احتسائه الشمبانيا مع راتكو ملاديتش قبيل المجزرة بوقت قصير، تغني عن ملايين الكلمات.

ومن يتعجبون من مشاعر «العثمانيين الجدد» في تركيا الحديثة ويشتكون كثيرا منهم عليهم أن يفهموا أن هذه هي الكيفية التي بدأ بها كل شيء. فمع عملية الإبادة الجماعية في البوسنة، أدرك كثير من الأتراك أنهم حتى لو كانوا قد بذلوا قصارى جهدهم لنسيان الإمبراطورية العثمانية - مثلما كانت تنصحهم به آيديولوجياتهم الجمهورية الأتاتوركية - فإن العالم لن ينسى، وكذلك أعداؤهم لن ينسوا. كما أدركوا أيضا أن «المجتمع الدولي» يكيل بمكيالين، وخصوصا حينما يتعلق الأمر بإخوانهم المسلمين.

ووفقا لهذه الروح التي تسود الحركة العثمانية الجديدة، فإن هذا هو تعليقي الشخصي إلى الشعب الصربي: بالطبع أنتم لستم جميعا مذنبين بارتكاب الإبادة الجماعية ضد البوسنيين، وأنا أتعاطف مع من يشعرون منكم بأسف حقيقي تجاهها، لكنني سأكن لكم كل التقدير إذا أخبرتم جماعات «تشيتنيكس» لديكم بأن عليهم أن يحسنوا التصرف في المستقبل، وألا يحلموا أبدا في يوم من الأيام بسربرينيتسا أخرى، وأن عليهم على الأقل أن يضعوا في اعتبارهم أننا نحن الأتراك قد عدنا حقا إلى التاريخ، وأننا لن نتخلى أبدا في يوم من الأيام عن البوسنيين.

* بالاتفاق مع صحيفة «حرييت ديلي نيوز» التركية