باب دمشق: بكل يد مضرجة يدق

TT

أسبوع ساخن شهده الصراع المحتدم في سوريا، كان فيه تصعيد من النظام، ثم تحوّل الجيش السوري الحر لأخذ زمام المبادرة واستطاع بشكل مفاجئ نقل المعركة لقلب دمشق العاصمة وأحيائها، وأدار تلك الاشتباكات بقوة، وكان يتقدم في بعض الأماكن ويبادر بالهجوم على المقرات الأمنية ويجبر قوات النظام على التراجع والدفاع، فقد أصبح في بعض الأحياء يفرض طريقته وأسلوبه.

لم يكتف الجيش الحر بذلك فحسب، بل قام بأكبر عملية نوعية منذ بدء الثورة من حيث براعة التخطيط وأسلوب التنفيذ وصعوبة المكان المحصن (مقر الأمن القومي)، حيث مقر قيادة الأزمة الواقع في منطقة شديدة الحراسة، ورمزية الهدف حيث القيادات الكبرى لجيش النظام وقوّاته الأمنية التي قضى عليها في هذه العملية الكبرى.

إن معرفة مناصب هؤلاء القتلى يعطي للحدث معناه الكبير؛ فداود راجحة هو وزير الدفاع ونائب القائد العام لجيش الأسد ونائب رئيس مجلس الوزراء، واللواء آصف شوكت هو نائب رئيس الأركان وصهر بشار الأسد، وحسن توركماني هو رئيس خلية الأزمة، ومحمد الشعار هو وزير الداخلية (إن صحت أنباء مقتله) كما أن الجيش الحر نفذ تفجيرات استهدفت الفرقة الرابعة، وهي الفرقة التي يقودها ماهر الأسد والمعروفة بأنها أقوى تشكيلات الجيش السوري وأعنفها، وتسربت أنباء لم تتأكد بعد عن تعرضه لإصابة.

بشار نفسه لم يزل مختبئا، فلم يوجه أي خطاب لقواته بعد مقتل قياداتها، واكتفى بخطاب للوزير الجديد الذي عينه، وقد أربكت هذه العمليات الناجحة للجيش الحر جيش الأسد، فتوالت الانشقاقات بالعشرات في عدد من محافظات سوريا، وأحسب أن الأسد الذي استدعى بعض قواته من الجولان التي لم تطلق تجاه إسرائيل طلقة واحدة خلال أربعين عاما لتوجه مدافعها ودباباتها لتفرغ ذخيرتها على رؤوس الشعب السوري في دمشق سيقوم باستدعاء بعض قواته الأخرى المنتشرة في كامل سوريا لحماية العاصمة، وسيكون على الجيش الحر قطع الطرق الموصلة للعاصمة، وتكثيف عملياته فيها لدفع بقايا جيش الأسد المنهارة للانشقاق أو الاستسلام.

إن العصيان المدني وضرب المطارات وتعطيلها واستهداف المقار الأمنية ومستودعات السلاح ستوفر للجيش الحر إمكانات أكبر، وبعض المنشقين الجدد يمتلكون أسلحة ثقيلة، كالدبابات والمدافع التي يمكن استخدامها في حسم المعركة.

كالعادة، ومع تحولات ضخمة كهذه، يبدي البعض مخاوف وشكوكا مستحقة، ولكنه يزيد عليها نظريات مؤامرة لا يحتملها المشهد؛ فلن يقوم النظام تحت أي ظرف بجدع أنفه، ويقضي على الصف الأول من قياداته وهو يعلم مدى أثر ذلك على معنويات جيشه، الذي يخسر كل شيء ويخضع ضباطه وجنوده لحصار قسري يمنعهم من مغادرة مقارهم ويمنعهم حتى من وسائل الإعلام.

من يرصد تصرفات الأسد يعلم أنه سيستخدم كل ما بيده لإيقاف هذا المد، وقد تناقلت بعض وسائل الإعلام تصريحات غربية عن تحريك الأسد لأسلحة كيماوية يمتلكها، وهو ما أكده بعض المتحدثين باسم الجيش السوري من تركيا، وكأن الأسد المحاصر يسعى لصناعة حلبجة جديدة يكون مقرها دمشق هذه المرة، بناء على خيار شمشون «علي وعلى أعدائي».

هذه العمليات النوعية والانشقاقات الواسعة وتغيير المعادلة على الأرض ستجبر القوى العالمية على مراجعة مواقفها، واتخاذ مواقف أكثر إيجابية وعملية في نصرة الشعب السوري ضد آلة القتل الأسدية الوحشية، التي لو تمكن النظام ووجد الفرصة سيعيد تشغيلها بأعتى مما كانت عليه بدافع إضافي هذه المرة، هو دافع الانتقام ومحاولة استعادة شيء من الهيبة المهشمة.

إنها أخبار سارة تأتي من دمشق بعد طول انتظار، وهي بداية موفقة لمعركة الحسم التي تدور رحاها هناك، وبقدر ما تبعث على التفاؤل فإن من سيحكم على استمرار هذا التفاؤل وزيادته هو الشعب السوري عبر عمليات نوعية أخرى للجيش الحر في كامل التراب السوري، وعبر العصيان المدني في كل المحافظات.

لقد انتهى نظام القذافي وتداعى سريعا بعملية نوعية تجاه باب العزيزية بعد دخول الثوار لطرابلس، وهو ما على الجيش الحر أن يخلق مثله في دمشق، مع استحضار فارق كبير؛ أن تلك العملية تمت مع تدخل قوي لقوات حلف الناتو، والجيش الحر يعتمد على قدراته الذاتية والدعم الشعبي العارم الذي يحظى به.

منذ بداية الأزمة، اعتمد الأسد الحل الأمني والعسكري وحده، وركن إلى الحماية الروسية له دوليا وإلى الدعم الإيراني اللامحدود سواء من إيران نفسها أم من العراق أم من حزب الله، وإلى قدرات جيشه العسكرية التي تقتل شعبا أعزل لم يلبث أن خلق وسائل دفاعه الذاتية عبر الجيش الحر، وبما أنه أوصد الأبواب أمام الحلول السياسية منذ البداية، فإنه سيتبنى موقفا مبنيا على العناد لا على العقل لمواصلة الحل الأمني والعسكري على الرغم من التغيرات الكبرى، أو الهرب نافدا بجلده.

لا يمكن تشبيه نظام الأسد بنظام آخر؛ فنظام القذافي لم يكن يمتلك جيشا حقيقيا وصلبا يسلطه لقتل شعبه مع بشاعة ما صنع القذافي، ولا يشبه نظام الأبارتهايد العنصري السابق بجنوب أفريقيا، فهو يقوم على مبدأ طائفي يوازي في مقته المبدأ العنصري هناك، ولكنه يزيد عليه، ودون أي مقارنة في مستوى الدموية والعنف والبطش الأعمى.

لن تكون مرحلة الانتهاء من الأسد ونظامه يسيرة، ولكن يبدو اليوم أن الرهان على الشعب السوري نفسه كان رهانا محقا، فهو شعب استجاب للوقائع التي حاول النظام فرضها، وكان يطوّر من رفضه فانتقل من المظاهرات السلمية إلى تكوين جيش حر يقوم بعمليات متفرقة لتأمين المدنيين واستهداف جيش الأسد، ولم يجد فرصة إلا وعبر من خلالها عن مواقفه بصراحة ووضوح؛ فحين جاء الدابي لم يدب معه، وحين جاء عنان لم يرخ له العنان، وحين خانته موازنات القوى الدولية فرض خياراته التي ستغير وجه المنطقة.

مؤشر آخر على اهتزاز النظام بقوة، ألا وهو خروج نصيره حسن نصر الله ملقيا خطابا يتحسر فيه على فقد رفاق السلاح الذين كانوا يقتلون الشعب السوري، وبدا حزينا منكسرا محبطا، وفضح كل شعارات الممانعة والمقاومة التي خدع بها كثيرا من المثقفين العرب في السابق وأظهرها كأكذوبة صلعاء، ولا يلام فإيران تخنق اقتصاديا والأسد يفتش عن مهرب.