الجيش الوطني السوري الحر.. وما أدراك ما هو؟

TT

عندما اتخذ النظام السوري الحل الأمني سبيلا ضد الشعب الأعزل في سوريا في محاولة لإجهاض ثورته وتأديبه على شجاعته، لم يكن يخطر في خلده دخول ذلك الرقم الصعب في المعادلة بين النظام والشعب، الذي غير مجرى أحداث الثورة وزادها عنفوانا وجعل الصراع أكثر تعقيدا، وإن طال أمده. فأن يطول أمد الصراع خير من أن تنتصر الفئة الباغية. وأن تزداد التكلفة خير من الالتفاف على الثورة ومن ثم خسارة المعركة. والرقم الصعب هو الجيش الوطني السوري الحر، وأعظم ما فيه هو وطنيته، لذلك كان لزاما إقحام كلمة الوطني في اسمه.

كثير هم أولئك الجنود، من ضباط وصف ضباط وأفراد، الذين آثروا أن يقتلوا على أيدي قوات النظام غدرا على أن يقتلوا أبناء أمتهم. لقد كانت محنة عظيمة تلاها قرار عظيم ثم خاتمة أعظم وهي الشهادة. فالانشقاق عن النظام يعني مصيرا واحدا وهو التعذيب والقتل، ثم التمثيل، وربما قتل الأهل والأولاد، بل الأقارب أيضا. هذا ما آلت إليه أحوال السابقين الأولين من المنشقين أو على الأقل معظمهم. صحيح أن الانشقاقات لم تكن من الضباط الأمراء أو القادة في البداية، لكنها بتعدادها وعديدها كسرت ظهر النظام وغيرت اتجاه الثورة. وعوضت الشعب السوري معنويا عن الإحباط الذي أصيب به من موقف جيش النظام الذي لم يكن أبدا جيش الوطن، بل جيش العائلة من الطائفة..

ولذلك حاول النظام جاهدا أن يقضي على هذه الظاهرة ليقضي على الثورة، فكانت خطة اختطاف المقدم المقدام حسين هرموش أيقونة الأحرار في الجيش الوطني السوري الحر، وتسبب ذلك في نكسة شديدة على المستوى الشعبي والعسكري للثورة السورية، لكن الانشقاقات توالت وازدادت مع تزايد بطش النظام ووحشيته ضد المدنيين العزل. وتطورت الثورة إلى حيث وضعها الطبيعي الذي هو بالتعريف التغيير الجذري للواقع عن طريق القوة. والقوة من أجل التغيير أصبح لا مناص منها، خصوصا عندما نعلم أننا لسنا بصدد ثورة سياسية فحسب، بل اجتماعية أيضا. والذين ينادون بأن تعود الثورة إلى سلميتها لا يعرفون سنة الله في الكون، فضلا عن معرفة طبيعة الصراع وسجالاته، وأن الملك لا يسلم ولا يؤخذ، بل ينتزع انتزاعا.

وكثيرا ما يختلط الأمر على البعض من حيث «هل الثورة هي إسقاط للنظام أم إسقاط للدولة»؟ والجواب الشافي والكافي هو أن الثورة في الحالة السورية هي تغيير للمجتمع، يعني تتجاوز حتى إسقاط الدولة.

وإن تعجب فعجب إصرار بعض المعارضين السياسيين السوريين على أن الثورة هي إسقاط للنظام وليس للدولة، متجاهلين أنه لا وجود للدولة في سوريا أصلا منذ عقود. وأنها قد سلبت واختطفت ودمرت عندما سيطرت العائلة على المؤسسة العسكرية، تلك المؤسسة الأساس في «دولنة» أي دولة. وتسقط الدولة أيضا عندما يسرق النفط ولا تدخل إيراداته في خزينتها، بل في حساب رمز الأمة (أمتهم طبعا). وتسقط الدولة عندما تسرق الآثار والكنوز الذهبية وتحول إلى سويسرا بمعية التسهيلات المالية الدولية في وقت يكون البلد فيه بأشد الحاجة إلى دعم احتياطها النقدي، وتسقط الدولة عندما تقترح الحكومة مشروعا عمرانيا في حمص سموه وقتها بـ«مشروع حلم حمص» هدفه هو تدمير المدنية القديمة الأثرية، وتسقط الدولة عندما يتدخل اليونيسكو لحماية الأماكن الأثرية في دمشق من أيدي النظام، وتسقط الدولة عندما يحول النظام غوطة دمشق، إحدى جنان الدنيا، إلى عشوائيات سكنية ومستوطنات لرجال الأمن والجيش من أجل محاصرة العاصمة والانقضاض عليها عند صحوة الشعب. لكن الدولة في سوريا قد سقطت فعلا عندما أخذ الجيش الوطني السوري الحر الشرعية من الشعب باستخدام القوة على الأراضي السورية للدفاع عنه ضد جيش النظام، فاحتكار الدولة لاستخدام القوة على أراضيها قد سقط، وعندها سقطت الدولة، وأصبح موضوع إسقاط النظام أم الدولة من لهو الحديث.

ولا بأس هنا من التذكير بتعريف الدولة والنظام والثورة لنعرف طريقنا وما هو هدفنا؛ فالدولة هي تلك السلطة التي تحتكر شرعية استخدام القوة على أراضيها حسب ما بينه ماكس ويبر، أما النظام فهو البنية الدستورية للدولة، سواء أكانت ملكية أم ديمقراطية أم أوليغاركية (القلة الغنية) حسب تعريف لورانس ستون.

والثورة بأعظم تعريف لها، وهو تعريف صموئيل هانتغتون، أنها تغيير خاطف (أي غير تدريجي) وجذري وعنيف (أي باستخدام العنف) في القيم والشعارات الاجتماعية السائدة، وفي المؤسسات السياسية والبنية الاجتماعية، وفي القيادة، وفي النشاطات والسياسات الحكومية. فالثورات تختلف عن التمرد وعن الانقلاب وعن حروب الاستقلال. طبعا هذا تعريفها بهدفها، ولكنها بذاتها هي ذلك العمل الجماعي الذي يبدأ بحراك شعبي وينتهي بتحريك الجمود السياسي والاجتماعي السائد في البلد. والثورة تصبح ثورة عظمى عندما تحدث تغييرا في المجتمع. والمجتمع هو ذلك الشعور وآليات التضامن الشعبي المشترك، سواء أكانت قبلية أم عصبية أم وطنية. والتحريك يكون حسب ظروف البلد وأهداف الثوار. فالتحريك المنشود في سوريا يختلف عما سعى إليه الثوار في تونس ومصر مثلا. وطالما أن الثورة عمل جماعي فلا توجد ثورة ذات عمل فردي، وإنما تقاد من قبل أفراد. وفي حال غياب القادة فإن الميدان هو الفصيل، لكن التكلفة ستعظم؛ لأن غياب القيادات النوعية في الجيش والسياسة يعني أن الثورة ستعتمد على العمل الكمي والتراكمي المكلف كثيرا والطويل جدا.

وأما أفضل تعريف «للجيش الوطني السوري الحر» فهو ما عبر عنه الأستاذ واصل شمالي بأنه تلك المجموعات من المدنيين القادرين على حمل السلاح وفهم أخلاقيات استخدامه، ومن انضم إليهم من الضباط وصف الضباط والجنود المنشقين، حيث بدأ عملهم جميعا بحماية المتظاهرين السلميين، وانتهى بهم الهدف إلى تحرير البلاد من آل الأسد. إذن هو مجموعات متفرقة تظللها الثورة ويوحدها الهدف والإخلاص، لكن يعوزها التنسيق والترابط. فالجيش الوطني السوري الحر وإن كان غطاؤه العسكريين، إلا أن عماده الثوريون المدنيون، وهذا ما يجعل القضاء عليه أمرا لا طاقة للنظام به، لذلك فإن أي حل للأزمة لا بد أن يكون هو طرفا فيها، بل هو من يستطيع فرضها أم رفضها.

وطالما أن الجيش الوطني السوري الحر هو صاحب الشرعية في الدفاع عن السوريين الآن، فإنه يجب التركيز على تنظيم صفوفه وتأطير عمله في ظل اتحادات ثورية ميدانية مناطقية تضمن تقدمه وتمكينه من قلب ميزان القوى في سوريا لتكون يده هي العليا في كل المحافظات، وعلى رأسهم دمشق وريفها، مما يعزز مكانته الداخلية والخارجية، وبشكل يجعل القوى الدولية الكبرى تستجديه كما استجدت المقاومة العراقية من قبل. وعلى الجيش الحر أن لا يعلن عن كل ما يعمل ويقوم به، فما هو مبرر شرعا وخلقا في أعرافنا يمكن أن يكون مستهجنا من قبل بعض الأطراف الدولية الحكومية وغير الحكومية ذات التأثير الإعلامي والحقوقي الكبير، بما يمكنهم من تجريم الجيش الحر وتسويقه إعلاميا على أنه أحد قطبي الشر في سوريا.

ويبقى الدعم السياسي والمادي والعسكري له أهم عمل للمعارضة السياسية، وهو السبيل الوحيد لقوتها، فهي قوية بقوة الجيش السوري الحر، وسيتم الاعتراف بها كلما ازدادت قوته وتأكد من حسن تمثيلها له. ويجب أن تتخذ مواقف سياسية تتناسب مع حجم إنجازاته ومدى سيطرته على الأراضي السورية التي بلغت أكثر من 65 في المائة؛ لأن انهزامية المعارضة وضعف خطابها السياسي يقللان من شأن الثورة عالميا ويزيدان من تكلفتها داخليا.

* باحث في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز بالمملكة المتحدة