«نصر الله» مذعورا

TT

لم يعد أحد يكترث لخطب أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله، فمنذ سنوات قاطعتها الفضائيات لأن الناس قاطعتها، حيث فقدت بريقها وأهميتها وتجديدها. ولكن خطابه الذي ألقاه مؤخرا بمناسبة ذكرى حرب يوليو (تموز) 2006 كان له طابع خاص كونه جاء في مساء اليوم الذي سقط فيه أهم قادة النظام السوري الذي يعتبر بمثابة الحبل السري لتغذية ودعم حزب الله.

هذه المرة كان الخطاب مختلفا، بدا نصر الله متوجسا وقلقا بصورة غير مسبوقة حتى وقتما خرج في أغسطس (آب) 2006 يستجدي العرب التوسط لدى أميركا لتوقف إسرائيل القصف على لبنان. في خطابه الأخير، كان نصر الله يستطعم المرارة بخسارته رموزا لا تعوض في النظام السوري، سواء بصفتهم الشخصية كآصف شوكت، أو بموقعهم في المنظومة الدفاعية كوزيري الدفاع والداخلية. نصر الله كان جزءا من خلية الأزمة التي يديرها أكثر عناصر وحلفاء النظام السوري شراسة وبطشا ضد الثوار، لذلك كان صادقا عندما قال إن القتلى رفقاء سلاح.

الخطاب أكد حالة الذعر التي يمر بها حلفاء نظام الأسد، في محاولة لتجميع شظايا انكساراتهم بعد اغتيال أبرز قيادات النظام السوري. ولكنه كان متوقعا في معظمه، فقد كرر نصر الله تأييده الصريح لبشار الأسد، وقدم تعزية دافئة في قتلى خلية الأزمة الذين أداروا المجازر في حق المدنيين السوريين.

ولكن الخطاب حمل أمرين يستدعيان التوقف عندهما: أولهما، ما أظهره من بساطة وسذاجة في محاولة تنظيف وجه بشار الأسد حينما نسب إليه صناعة الصواريخ التي كان حزب الله يطلقها على إسرائيل في حربه معها صيف 2006، وكانت فصائل المقاومة الإسلامية تطلقها من غزة على إسرائيل. هذه ليست تزكية لبشار الأسد بل تهمة، فإن كانت سوريا تمتلك قدرة تسلح تتيح لها الدفاع عن لبنان وغزة فلماذا لم تحرر أرض الجولان المحتلة وهي الأقرب والأولى. كما أن صواريخ فصائل المقاومة الفلسطينية محلية الصنع وبدائية، يسميها خبراء التسليح صواريخ كرتونية، لأنها مثل المفرقعات، تحدث ضجيجا لكنها عمياء، تطير عشوائيا ولا تقتنص أهدافا. حتى عندما حاول بشار الأسد أن يدخل سوريا إلى ميدان الصناعات الحربية النووية، لم يكد يشيد مبنى صغيرا في دير الزور في عمق الأراضي السورية حتى داهمته قوات إنزال إسرائيلية باتت ليلتها كاملة في الموقع، تعاين وتتجول وتجمع عينات، وبشار الأسد وقادة جيشه نائمون.

نصر الله يبرر ما يحصل في سوريا بأنه مؤامرة صهيونية لتفكيك الجيش العربي الوحيد الذي يقف في وجه الصهاينة، رغم أن ما شهده العالم منذ أكثر من عام أن هذا الجيش استعان طوال هذه الفترة بالروس والإيرانيين لإمداده بالدعم اللوجيستي لمقاومة ثوار بدأوا ثورتهم عزّل، ثم جاء دعمهم بعد شهور من خلال منشقين عن الجيش السوري الذي لا يحملون له ولاء. لم يقدم أحد أسلحة ثقيلة أو متطورة للثوار كما حصل مع بشار الأسد؛ فالمجتمع الدولي متحفظ، والأردن ممتنع لحفظ أمنه الداخلي، وتركيا لم تستطع فرض منطقة عازلة، أما لبنان، فإن خصوم النظام السوري لا يجرؤون على إدخال دراجة نارية أو طائرة ورقية إلى سوريا.

يقول نصر الله إن الغرب لا يوافق على تسليح أي دولة يخشى على إسرائيل منها، لذلك لا يمانع تسليح دول الخليج، وفي هذا مفارقة، لأن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حليف إيران ومنافس نصر الله، تقدم الأسبوع الماضي بطلب إلى واشنطن لتسليح جيشه بريا وجويا. وسيكون للعراق في الفترة المقبلة، وخاصة بعد سقوط نظام الأسد، أهمية كبيرة على ساحة النزاع الإقليمي بين العرب وغريمهم الفارسي.

الأمر الآخر اللافت في الخطاب، أن قوات النظام السوري ومنهم عناصر من حزب الله، قصفت خلال الثورة السورية مخيمات الفلسطينيين في سوريا، منها مخيم الرمل في اللاذقية الذي قصف بالزوارق الحربية، ومخيم اليرموك في دمشق، ومخيمات حلب، وحماه، وحمص، ويتجرأ نصر الله في خطابه على تحذير الفلسطينيين من عودة القضية الفلسطينية للحضن العربي لأنها ستضيع 60 عاما أخرى، ويذكرهم بأن المحور الذي وقف معهم في قضيتهم في السنوات الأخيرة هو المحور الذي يتعرض الآن للسقوط.

نصر الله يعلم أن فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة خاصة حماس، تعيش منذ أعوام حالة هدنة مع إسرائيل، وأنه منذ اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله - قبل ثماني سنوات وحتى اليوم، لم نعد نستطيع حصر عدد اتفاقيات وقف إطلاق النار والهدن التي أبرمتها حركة حماس مع إسرائيل. أحمد ياسين الذي رثاه العرب وتألموا لاغتياله، كان رمزا للجهاد والمقاومة النقية، لذلك كان التأييد العربي له كبيرا، ولذلك كان يوم خروجه من السجون الإسرائيلية في عام 1997 يوم عيد للعرب، فتسابقت الدول العربية كمصر والسعودية وقطر لتقديم العلاج له، فتوجه إلى مصر بدعوة من الرئيس السابق مبارك، ثم إلى السعودية التي استقبل فيها استقبال الأبطال، وحظي بضيافة ملكية، وزاره في المشفى الملك عبد الله بن عبد العزيز حينما كان وليا للعهد آنذاك وقال له: (لقد جئتك حتى أقول للعالم إنني أؤيد الخط الذي أنت عليه). عندما كان أحمد ياسين على رأس حركة المقاومة، ورغم اختلافه الفكري والمنهجي مع السلطة الفلسطينية كان حريصا على الوئام الفلسطيني، وأكثر حرصا على علاقاته العربية. لم يهجر الفلسطينيون مقاومة إسرائيل ويتجهوا إلى محاربة بعضهم بعضا إلا بعد أن بعد أصبحت القضية الفلسطينية سلعة تباع وتشترى على منبر خطب آية الله خامنئي.

في واقع الحال، أن القضية الفلسطينية لم تكن بعيدة عن الحضن العربي إلا في شقها المتعلق بغزة كونها تحت سيطرة الحكومة المقالة التي اختارت حضن الغريب، أما القضية الفلسطينية بعمقها التاريخي والإنساني فلم تكن يوما بعيدة عن الدول العربية.