الجيش السوري وإمكانية الانقلاب العسكري

TT

أريد أن أعود بالقارئ العزيز إلى المجزرة التي تعرضت لها الخلية المخابراتية/ العسكرية، في نظام ماهر وبشار الأسد يوم الأربعاء الفائت. السبب أني لست مقتنعا بالرواية الرسمية التي تزعم بأن حارسا - مجرد حارس «خائن» - اخترق قدس أقداس أمن النظام. ودس المتفجرات التي تركت، بين قتيل وجريح، هذه «النخبة» التي قيل إنها «تدير» الأزمة السورية.

السبب الآخر هو أن «نخبة» أخرى ربما هي التي عطلت النخبة «المنكوبة» عن التفكير، مجرد التفكير، بوقف مسلسل القتل. والذبح. والتدمير. فهذا النظام البوليسي الذي يبدو خلية واحدة متماسكة، هو في الواقع مراكز قوى لا تجمعها سوى المصلحة المشتركة في نهب وترويع الشعب الذي تحكمه.

حتى الأب لم يكن مستأثرا بالحكم وحده. كان عليه مشاركة واسترضاء القادة العلويين للفرق المدرعة. ولم يأمن «شرورهم»، إلا عندما أنشأ الأجهزة الأمنية المخيفة التي سلطها على المدنيين والعسكريين. فحيدت «النخب» العسكرية. وعندما خطط لتوريث «نخبة» أولاده وعائلته نظامه، سرح قادة «النخب» الأمنية الكبار. وترك لبشار وماهر التوسع في تشكيل «نخب» أمنية أكثر شبابا. وثقة. وفسادا. وكلهم من أبناء العمومة. والخؤولة. والأقارب.

أية «نخبة» إذن، في هذا النظام الفسيفسائي هي التي فتكت وعطلت «نخبة» مكتب الأمن القومي؟ هل هي «نخبة» منافسة أشد قوة وطموحا في «وراثة» النظام المتهاوي، وفي تعويم سفينة غارقة بالدعاء؟ أم هي «النخبة» الأكثر ولاء. والأشد فتكا؟ أم هي «نخبة» النخب، نخبة العائلة المافيوية التي تدير عمليا «الأزمة»، بوحشية لم يعرفها عصر ما بعد الحرب العالمية، إلا في عصر الخمير روج، في كمبوديا.

مع كل تقدير لدماء وأرواح شهداء الثورة المسلحة، أنحني للنخبة في الجيش الحر التي نسبت لنفسها التفجير داخل مكتب الأمن القومي، إنما أقول خدمة للحقيقة، وأمانة مع الواقع، إن أي تحليل موضوعي عارف بإمكانيات النظام والمعارضة، يتجه إلى تحميل نخب النظام المتنافسة مسؤولية الفتك وتعطيل «نخبة» من نسيجه، ربما فكرت أو عملت لتغيير المسار، بعدما أيقنت أن اتهام الشعب الذبيح «بالتآمر» هو من قبيل الكذب الفاضح الذي لم يعد بالإمكان تصديق بشار بما يدعيه.

لا شك أن ادعاء المعارضة المسلحة بأنها هي صانعة التفجير في مكتب الأمن الذي لم يسمع دويه خارجه، شجعها كثيرا في عملية اقتحام دمشق وحلب، ببسالة لم تشوهها سوى نداءات متفرقة انطلقت في الدعوة إلى خلافة إسلامية...

هذه النداءات التي أطلقها مسلحون متسللون في حي الميدان الضخم الذي يشكل ثلث مساحة دمشق القديمة، وأيضا في حزام البؤس المحيط مع مخيم اليرموك، بجنوب دمشق، حدت بفلسطينيي المخيم إلى الطلب من المسلحين الانسحاب. حسنا صنع المخيم. بعد تجارب التدخل الفلسطيني المريرة في شؤون لبنان. الأردن. العراق، فمن الحكمة الاستماع إلى نصيحة محمود عباس لفلسطينيي سوريا، بكتم عواطفهم المتحيزة لنظام «الممانعة/ المقاومة» الكاذبة، وعدم الاستجابة لضغطه عليهم، لخوض معركته.

أما حي الميدان المعارض للنظام والمعروف بقوة شكيمته المستمدة من أصوله البدوية، ثم بمحافظته الدينية التي احتضنت، في تعايش مدني رائع، أقدم الكنائس والكاتدرائيات المسيحية، وزقاقا كبيرا للإخوة الدروز، فهو أيضا طالب المسلحين المتزمتين بمغادرته، بعدما سقط شهداء منه ومنهم، في معارك مع قوات النظام، الأمر الذي يدل على أن سوريا المستقبل لن تقبل بحكم متزمت.

الغلالة «البعثية» الخفيفة للنظام نسيت أن حزب البعث انطلق من الميدان المحافظ بزعامة توأمية لابنه المسيحي ميشيل عفلق، وابنه المسلم صلاح الدين البيطار سليل أسرة دينية سنية عريقة. ومن هذا الحي، قاد الشيخ حسن حَبَنَّكَهْ، في الستينات، أول مقاومة سلمية لبعث صلاح جديد وحافظ الأسد.

افتراضية بتر النظام لخلية من نسيجه ربما فكرت بمسايرة منطق الثورة الشعبية، تفسح في المجال للادعاء بأن هناك أكثر من «نخبة» واحدة في النظام باتت تفكر، أو تهيئ للتغيير فيه، بعد فشل الحل الأمني، وبعد سقوط نظرية «مؤامرة» شعب على نظام مستبد.

أين تكمن هذه النخب والخلايا؟ أستطيع أن أقول إن دفع ماهر وبشار الجيش السوري النظامي إلى خوض حرب خاسرة، قد رد الاعتبار لقادة الفرق المدرعة العلويين الذين حيدتهم الأجهزة الأمنية، وحرمتهم من النفوذ الذي كان أسلافهم القادة يتمتعون به في سبعينات وثمانينات الأب.

هؤلاء القادة يرون الثورة المشتعلة قد حررت الريف السوري وصولا إلى الحدود الأردنية. العراقية. التركية (حيث سكتت تركيا عن إسقاط طائرتها)، لنجاحها الباهر في تعزيز ودعم القرويين الثائرين (في سهول حلب. وجبال وراوبي إدلب).

ثمة اقتناع لا بد أنه يتشكل في ذهن وصمت هؤلاء العسكريين العلويين بأن الهجوم المضاد الذي أمروا بشنه لاستعادة السيطرة على الحدود والأرياف لن يكتب له النجاح التام. الاختبار الحقيقي للنجاح والفشل هو في وسط سوريا، حيث قوات المعارضة المسلحة ما زالت صامدة أمام القوات النظامية التي تنطلق من الأحياء والقرى العلوية في حمص وحولها، في الهجمة الشرسة على المدينة الاستراتيجية المرشحة، في الفكر الانفصالي، لتكون عاصمة لدويلة طائفية، تمتد كخنجر في قلب الجغرافيا السورية، وصولا إلى بحر المتوسط.

الجيش النظامي مثخن بالجروح. لكن لا يزال يملك احتياطا بشريا لم ينشق معظمه عنه. وأيضا احتياطا هائلا من الذخيرة، ومعدات حديثة متدفقة بسخاء من روسيا التي باتت تدير الأزمة السورية داخليا وخارجيا. والأرجح أن لديها قوة برمائية في قاعدة طرطوس تشكل حماية لنحو عشرين ألف روسية تزوجن، خلال السنوات العشرين الأخيرة من عشرين ألف سوري، معظمهم علويون عسكريون، تدربوا في روسيا.

قاعدة طرطوس الروسية هي الآن ملجأ آمن لأسرتي بشار وماهر اللتين وصلتا إلى طرطوس، لتشييع ودفن آصف شوكت زوج بشرى الشقيقة الكبرى لهما. القاعدة تصلح غدا لاستقبال الرجلين كملجأ مؤقت، ريثما يتم ترحيلهما إلى إيران أو روسيا، إذا كتبت لهما النجاة.

ليالي دمشق حُبالى بالانقلابات العسكرية. لكن يستحيل الانقلاب العسكري في حالة صحوة الجيش، وانتشار فرقه خارج ثكناتها، بكامل أسلحتها وجاهزيتها القتالية. مع ذلك، أحسب أن فرصة وقتية قصيرة متاحة، بأيام أو أسابيع قليلة للقادة العسكريين العلويين، للقيام بانشقاق «سلمي» عن النظام، وتشكيل قيادة تغيير عسكرية، مع من تبقى من ضباط السنة والأقليات.

هذه القيادة المشتركة تحفظ كرامة الضباط العلويين. وتؤمِّن الطائفة. وهي مؤهلة ليس للحكم، وإنما لفترة انتقالية وجيزة، تنتهي بانتخابات حرة، وتسليم الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة، لا سيطرة لطائفة كبرت أو صغرت عليها.

ليس في فمي ماء. أتكلم بصراحة مطلقة. وحالي كحال الشاعر العربي:

وقد أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

الأمر هنا النصيحة للقادة العلويين. «منعرج اللوى» مكان في صحراء العرب. لعل النصيحة تنفع اليوم قبل الغد.